في مقدم الأسئلة التي تشاغب عقل النخبة والعوام في الشرق الأوسط، ذلك السؤال الخاص بشكل العلاقة القادمة بين إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب جوزيف بايدن، وبين تيار الإسلام السياسي، بمختلف أطيافه وأطرافه. ولعل منطلق السؤال يحمل عودة إلى الوراء، حين كان الرئيس الجديد، نائبا لرئيس فتح الأبواب على مصاريعها، أمام جماعات أصولية لطالما حلمت بحكم العالم العربي، وذهب بعضها في طريق السعي إلى إقامة دولة الخلافة، بطريق أو بآخر. والشاهد أن التساؤل يمضي في مسارين لا ثالث لهما: “هل سيكون بايدن نسخة مكررة من أوباما، أم أنه سيعيد سيرة ترامب ومواقفه من تلك الجماعات؟. يمكن القطع بادئ ذي بدء بأن طرح السؤال على هذا النحو، أمر تسطيحي مخل، لا يراعي تغير الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط، ولا تجارب الدول التي ضربتها ثورات “الربيع العربي المغشوش”، والخيار ثنائي التوجه على هذا النحو، يقطع الطريق على جدلية التاريخ وحركة الحياة. وبعيدا عن التنظيرات الفلسفية، يمكننا القول إن علاقة الولايات المتحدة بجماعات الإسلام السياسي، تختلف بحسب مصالح وأهداف أمريكا الاستراتيجية، وعليه فإنه لا يمكننا النظر إليها جميعا من منظور واحد، الأمر الذي يمكن له مع الإدارة القادمة، تدوير بعض المواقف مع تلك الجماعات، وبما يصب في نهاية المشهد في صالح رؤية أمريكا الداخلية، وكذا مصالحها الأممية وراء البحار. عطفا على ما تقدم فإنه من المؤكد أن أضابير واشنطن تمتلئ بتفريعات وتربيطات لإدارات أمريكية منذ منتصف القرن العشرين، مع ممثلين لروافد الإسلام السياسي، وفي المقدمة من الجميع الحاضنة الكبرى، جماعة الإخوان المسلمين المصرية، والتي عرفت كيف تتسلل إلى القلب من الولايات المتحدة في زمن الرئيس إيزنهاور، حين استقبل في البيت الأبيض، طارق رمضان صهر حسن البنا مؤسس الجماعة، التي أفرخت كافة الجماعات الجهادية والقاعدية والداعشية وغيرها مما له إسم وما هو خفي تحت الأرض من غير مسميات. والثابت من أضابير أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وما يستطيع الباحثون الوصول إليه، هو أن واشنطن تلاعبت بهؤلاء مرتين، الأولى حين اعتبرتهم وقودا أيديولوجيا لمواجهة الشيوعية في الشرق الأوسط منذ خمسينات القرن العشرين، وذلك حين سادت رؤية “لاهوت الإحتواء”، للأخوين جون فوستر دالاس وآلان فوستر دالاس، وقد رسما الطريق لاستخدام الحمية والحماس لدى الشباب المسلم في الشرق الأوسط، لقطع الطريق على تسرب الشيوعية إلى العواصم العربية. فيما المرة الثانية، حين جرى اللعب على أوتار المجاهدين العرب، أو هكذا أطلقت عليهم وسائل الإعلام الأمريكية اللقب، وتم تقديمهم كوقود لوجستي لمواجهة السوفييت على الأراضي الأفغانية، وبلغت الازدواجية الأمريكية التقليدية مبلغها حين استقبل الرئيس الأمريكي الجمهوري رونالد ريجان في البيت الأبيض، طائفة من الذين سيتم اعتبارهم لاحقا إرهابيين، وظهروا على شاشات التلفزة الأمريكية تحت عنوان “المقاتلين الأحرار”. هل يدرك بايدن الدرس؟.. وهل للرجل دالة على قراءة التاريخ وأحاجي الإنسانية، وبخاصة أخطاء الارتباط مع جماعات الإسلام السياسي التي تحركها عادة أجهزة الاستخبارات الأمريكية الخارجية؟. في مؤلفه العمدة “إرث من الرماد” عن تاريخ “السي .آي .إيه”، يخبرنا الباحث الأمريكي في شؤون الوكالات الاستخبارية الأمريكية “تيم واينر” عن الفشل الامريكي الذريع، سياسيا واستخباراتيا، في فهم مكنونات عقل وقلب الأصوليين الإسلامويين، ولا نقول الإسلاميين أو المسلمين، ذلك أن المحاربين الذين ساندتهم واشنطن لنحو عقد من الزمن، ودربتهم تدريبا عسكريا ملحميا، وأنفقت عليهم بشراكات أخرى ملايين الدولارات، من أجل إفشال مشروع موسكو في كابول، وخوفا من عبور الجبال إلى الخليج العربي، حيث النفط العربي، سرعان ما سيستهدفون الولايات المتحدة، وما إن تم إدراك ذلك، فشلت الوكالة الرئيسة للاستخبارات الأمريكية في التصرف، وشكل ذلك فشلا ذريعا. والثابت أن بايدن قد عاصر سنوات أوباما الثماني في البيت الأبيض، وكما قدر له بصورة أو بأخرى أن يشهد على توجهات الدعم والزخم الأوبامي للإخوان المسلمين من تونس إلى مصر ثم ليبيا وبعدها سوريا وتاليا اليمن، فقد رأى بأم عينه كذلك فشل الرهان على هذه الجماعة من جديد، لا سيما بعد خروج “الطوفان البشري”، الذي نادى بسقوط حكم المرشد، والغريب أن تلك الملايين لم تصح مطالبة بإسقاط حكم مرسي، ما يدلل على فكرة الوعي والفرز الجماهيريين، الواضح والفاضح، لمشروع الإخوان. لماذا استدعاء الماضي القريب من جديد ووضعه في إطار توجهات إدارة بايدن والمليئة ولاشك بعناصر شاركت في نسج خيوط وبسط خطوط إدارة أوباما؟. باختصار غير مخل: لأن كيانات الإخوان ومن لف لفهم لاتزال قائمة في أروقة واشنطن، ولم تعمد إلى التصادم مع إدارة ترامب، واستمرت بنفس عقلية الاختباء إلى أن تحين لحظة التمكين. لم تعدم واشنطن أنصار الإسلام السياسي في دهاليز الخارجية الأمريكية، وفي الكثير من مراكز البحوث والدراسات، والتي تشكل عقل أمريكا الواعي. والمتابع للحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة يستطيع أن يرصد ابتهاجا إخوانيا واضحا جدا لفوز بايدن وفشل ترامب، بل وصل الأمر من قبل بعض المتهوسين حد اعتبار أن بايدن في طريقه لإعداد تجريدة عسكرية لإسقاط الأنظمة التي خرجت على الإخوان. يحتاج مشهد بايدن – الإسلام السياسي إلى قراءات استشرافية عقلانية، وبعيدا عن التهوين والتهويل، مع الأخذ في عين الاعتبار أنه لا فارق بين ترامب أو بايدن، بوش أو أوباما، لجهة تحقيق المصالح الأمريكية، فالجميع في خدمة العجلة الأمريكية، ما يعني أن اللعب على أوتار الإسلاميين سيمضي مدا أو جزرا حسب مصالح واشنطن وليس أكثر.. هل من دليل على صدقية ما نقول به؟ باختصار غير مخل.. إنه ورغم الضجيج الهادر الذي صاحب إدارة ترامب، إلا أنه لم يقدر لها اعتبار جماعة الإخوان منظمة إرهابية كما فعلت العديد من الدول العربية. هل سيتم التلاعب بتلك الجماعات وإعادة تفعيل أدوارها مرة ثانية داخل العالم العربي، ومدى إمكانية الأمر وخطورته، وكيف يمكن قطع الطريق على الألاعيب التي تعد في ليل واشنطن البهيم رغم أجواء كورونا؟ إلى قراءة قادمة بإذن الله.
مشاركة :