تتفرد مدينة القاهرة بسحر خاص، تجذب إليها القلوب قبل العيون، عجز المؤخرون والمستشرقون على وصفها، فكل من يأتى إليها يأبى الرحيل، وكأنها “النداهة” التى تشدو بصوتها العذب لتجذب إليها كل من تخطو قدمه عليها، فهى مزيج من العبقرية والجنون، أما لياليها فلها مذاق خاص، التجوال فى شوارعها حتى مطلع الفجر، فهى المدينة التى لا تنام. وعلى مدى شهر رمضان المبارك سنروى حكاية تلك المدينة الساحرة، أم المدن، «القاهرة» سنتحدث عن مساجدها، وكنائسها ومبانيها، وحكايات أشخاص عاشوا فيها، وغزاه وأحباب سنروى حكايتها منذ نشأتها. كانت خزائن الكتب من أهم مقتنيات العصر الفاطمى، وكان يطلق عليها مفخرة العصر الفاطمى، فهي أكبر دليل على تقدم الآداب والعلوم في تلك الفترة من تاريخ مصر، فقد كانت تحوى على أندر المؤلفات واشهرها، وكان فيها من بعض المؤلفات نسخ كثيرة، فكان الخلفاء والوزراء يحرصون على جمعها، حتى ينفردوا بالفخر ويحرموا منها المكاتب الأخرى فى العالم، وكان بعض الكتب بخطوط المؤلفين أنفسهم، كالخليل ابن أحمد والطبرى. فكان تجار الكتب يعرضون على موظفي مكتبة القصر أندر الكتب التي يعثرون عليها، وكانت معروضاتهم تفحص بعناية كبيرة، ووفقًا لما ذكره المقريزى:"أن رجلًا حمل إلى العزيز بالله نسخة من كتاب الطبرى اشتراها بمائة دينار، فأمر العزيز أمناء المكتبة، فأخرجوا من الخزائن ما يزيد على عشرين نسخة من تاريخ الطبرى، منها نسخة بخطة، ولعله فعل ذلك لكى لا يركب الرجل متن الشطط فى تقدير ثمن الكتاب، وحدث أن ذكر كتاب الجمهرة لابن دريك "وهو من أقدم معاجم اللغة وأصحها" فوجد العزيز أن فى المكتبة مائة نسخة منه". وكثيرًا ما كان الخليفة يزور خزانة الكتب، وكان يأتيه أمين الخزانة محملا بمصاحف مكتوبة بأقلام مشاهير الخطاطين، ويعرض عليهم ما يقترح شراءه من الكتب، أو ما يريد الخليفة حمله لقراءته فى مجلسه الخاص. وكان فى خزانة الكتب مخطوطات محلاة بالذهب والفضة، والبعض منها كان مزينا بالصور والرسومات الدقيقة، المتأثرة بالصناعة الفارسية، وقد جمع الفاطميون فى خزانتهم نماذج عديدة من كتابة مشاهير الخطاطين، ومنهم "ابن مقلة" والذى اشتهر بجودة الخط وابتدع الخط الريحانى، وكان له تلاميذ وظلت مدرسته فى الخط حتى عصر ياقوت المستعصي، وابن البواب وغيرهما. وكانت خزانة الكتب الفاطمية مقسمة إلى أربعين قسمًا منها قسم فيه ثمانية عشر ألف كتاب فى العلوم القديمة، وكان كل قسم يحتوى على رفوف عديدة مقطعة بحواجز، وعلى كل حاجز باب مقفل بمفصلات وقفل، وقد بلغت جملة ما فى خزانة الكتب نحو مليون وستمائة ألف، وقد قال البعض أن عدد الكتب وصل إلى ٢ مليون كتاب، في مختلف العلوم ومنها الفقة واللغة والحديث والتاريخ وسير الملوك والروحانيات والكيمياء. وكان أكثر المخطوطات المذكورة في جلود جميلة النقوش بديعة الصناعة نسج المماليك على منوالها في صناعة التجليد في عصرهم، وأخذ الغربيون عنهم في العصور الوسطى كثيرًا من أساليبهم. وفي أيام الشدة العظمى تعرضت خزانة الكتب للعبث في محتوياتها، فقد استولى الجند والأمراء على نفائس ما فى خزانة الكتب، فتفرقت أكثر محتوياتها، وكان بعض العبيد يتخذون من جلودها أحذية يلبسونها في أرجلهم، كما كانوا يحرقون ورقها زاعمين أن بها كلام المارقة الذى يخالف مذهبهم، وشهد عدد كبير من الكتب الإهمال بفعل الأتربة وأصبحت مثل التلال. وعلى الرغم من ذلك فقد بقى فى خزائن القصر الداخلية كتب لم تصل إليه يد العبث والتخريب، واستطاع الفاطميون بعد تلك الفترة العصيبة أن يعوضوا بعض ما فقدوه منها، وأصبح لديهم مكتبة عظيمة، إلا أنها بيعت عندما استولى صلاح الدين الأيوبي على قصر العاضد آخر الخلفاء الفاطميين، وذلك بعد أن ذاع صيت مكتبة الكتب الفاطمية فى العالم الإسلامي، والتي كان من إحدى عجائبها أنها كانت تحوى على ١٢٠٠ نسخة من تاريخ الطبرى.
مشاركة :