تحكم الظروف أحياناً أن يضطر الأهل إلى التخلي عن جزء من مسؤولياتهم بسبب ضغوط الحياة وساعات العمل، وغياب المساندة الاجتماعية، فلا يجد الأبوان بديلاً عن ترك أبنائهما الصغار وحدهم في المنزل في المدة ما بين عودتهم من المدرسة ورجوع والديهم من العمل، أو في أوقات اضطرارية تفاجئ الأهل، فهل يمكن أن يكون هذا الحل آمناً؟ وفي أي عمر على تدرج سنوات الطفولة يمكن أن يكون الأمر مقبولاً؟ هذا ما نطالعه في التحقيق الآتي. بعد أن قررت الاستغناء عن الخادمة من منزلها لعدم ثقتها بها، وجدت رانيا علي أحمد، المهندسة المدنية، نفسها مضطرة لإبقاء ابنتها ذات الخمس سنوات، وحيدة في المنزل لمرات عدة، لكون دوام عملها يمتد إلى ما بعد عودة الابنة من مدرستها بساعات، وتقول: كنت أستغل وقت استراحتي في العمل لأعود وأنتظرها أمام المبنى، ثم أصعد بها إلى المنزل أضع لها الغداء وكل الأشياء التي تحتاج اليها، ثم أغلق باب المطبخ تحسباً لأي خاطر يمكن أن يراودها لكن أترك لها مفتاح المنزل خشية وقوع حادث ما، وأعود إلى عملي لأبقى في حالة قلق وتوتر وأتابعها عبر الهاتف حتى تنقضي هذه الساعات. وعن رأيها بهذه التجربة، تؤكد أنها لم تقم بهذا الأمر إلا مضطرة لأنها تفتقد إلى المساندة الاجتماعية، فلا يوجد أقارب لها هنا، لكنها لا تنصح أبداً بهذا التصرف، إذ لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يخطر في بال الطفل، فضلاً عن الآثار النفسية التي تترسب لدى الطفل كالانطواء على الذات نتيجة الصمت والجلوس أمام التلفاز لساعات طويلة. وتشير أحمد إلى أنها على الرغم من كل الاحتياطات التي كانت تأخذها، فإنها كانت تدرك داخلها أنه لا يمكن أن يكون هذا التصرف آمناً، وتضيف: هذا الوضع لا يقتصر على الأطفال الصغار فقط، فحتى الأطفال الأكبر سناً لا ينبغي تركهم وحدهم إن كانوا يعانون مشاكل صحية على سبيل المثال، وصدف أن غابت ابنة جيراننا (31 عاماً) عن الوعي، في غياب والدتها التي خرجت للتسوق، وكانت الفتاة تعاني مرض السكر، فاستغرق الأمر أكثر من ساعة حتى تمكن رجال الأمن في المبنى من فتح الباب لإنقاذ الفتاة. في عمر أكبر تختلف معايير التجربة بالنسبة للأم هند السحيمي، موظفة اتصالات في مشفى خاص. تؤكد أنها أصبحت أكثر اطمئناناً على ابنتيها وهما وحدهما في المنزل، عمّا كان الوضع عليه في وجود الخادمة، تقول: كنت أخاف عليهما وأشعر بالقلق أكثر عندما كانت الخادمة معهما، فقد كانتا تكذبان عليّ خوفاً منها، إذ كانت تخرجهما معها من المنزل، ولا أدري أين تذهب، لكني عرفت بالأمر من ابنة صديقتي، لكن بعد ذهابها أصبح الوضع أفضل بكثير، وبت أشعر بأني قادرة على السيطرة على الأمور، ومطمئنة إلى أن ابنتيّ في أمان، فالكبرى اليوم في عامها العاشر، وهي واعية وتجيد التصرف، كما تجيد مجاراة أختها الصغرى ذات الستة أعوام. أما عن الاحتياطات التي تتخذها تحاشياً لوقوع أي مكروه، فتشير إلى أنها تقفل الغاز خشية أن يدفعهما الفضول إلى تحضير الطعام وحدهما، وتحاول أن تؤمن لهما كل ما تحتاجان اليه خلال الساعات التي تبقيان فيها وحدهما. ويختلف الأمر بين طفل وآخر، في رأي عهد خزندار، ربة منزل، مؤكدة أنها لا يمكن أن تطمئن لترك ابنها الأكبر ذي العشر سنوات وحيداً في المنزل لأنها تعرف طبعه المشاكس، خلافاً لأخيه الأصغر، الذي تثق به وبطاعته لها كثيراً. تقول: طبع الولد يحدد مدى إمكانية الاعتماد عليه في غياب الأهل، فابني الأكبر مشاغب ومؤذٍ، ولهذا أعرف أني إن غبت عن المنزل وتركته وحده، سيفعل أمراً ما، كأن أعود في يوم لأجده أخرج رجليه من النافذة وبقي معلقاً في الهواء، وكاد أن يسقط من فتحة النافذة، لو أن حجمه كان أصغر، ووجدنا صعوبة حينها في إخراجه منها، وهذا حدث قبل 3 سنوات، أو أن يلعب بالكبريت كما أخبرني أخوه الأصغر حين غبت عن المنزل لبضع دقائق قبل أيام. وهناك من الأمهات من يسيطر عليها القلق فيبقيها حبيسة المنزل، أو رفيقة الأبناء في كل تحركاتها مثل جميلة عبد الحميد، ربة منزل، التي تؤكد أنها على مدى سنوات طويلة ضحت بالكثير من الخصوصية التي تتمتع بها أو تسرقها أي أم من الحياة لتأخذ استراحة بين الحين والآخر، لأنها لا تستطيع الإفلات من قلقها على أبنائها. تقول عبد الحميد: على مدى أعوام طويلة لم أشأ أن أذهب في زيارة أو أخرج في مشوار من دونهم، فكانت الوساوس تسيطر عليّ من أن أمراً فظيعاً سيحدث إن غبت عنهم، وبقيت هكذا حتى كبرت ابنتي الكبرى وأصبحت في الخامسة عشرة من عمرها، وصرت متأكدة من إمكانية الاعتماد عليها لفترات قصيرة. ويوافقها الرأي حمزة الصالح، مدير محل مبيعات، ويقول إن الأم يجب أن تستجيب لهذا القلق الإيجابي والذي يخلق مع أول طفل تأتي به إلى الحياة، مؤكداً أن غياب الأبوين يجعل الأبناء بعيدين عن الشعور بالأمان من وجهة نظره، وأن الأمر يكون مضاعفاً في غياب الأم ، فهي الحضن الآمن بالنسبة لأطفالها منذ بدء الخليقة. ويضيف: لدي حساسية تجاه ترك الأبناء وحدهم في المنزل نتيجة حادثة عايشتها قبل سنوات، فقد احترق منزل أحد الجيران في المنطقة التي كنا نقيم فيها، واكتشفنا فيما بعد أن الأم ذهبت في زيارة وتركت الأبناء في المنزل وحدهم بعد أن أقفلت الباب عليهم، وأنهم أحرقوا المنزل عندما كانوا يلعبون في المطبخ، ويضيف بأنه رآهم يقفون في الشرفة ويبكون طالبين المساعدة وهم يصرخون بأن باب البيت مقفل، والحمد لله أنقذوا بأعجوبة حينها بفضل شجاعة أحد أبناء الحي. ويعد ترك الأطفال وحدهم في المنزل من الموضوعات المهمة والحساسة برأي د. علي الحرجان، اختصاصي الطب النفسي، ويرى أن هذا القرار يستند الى عدة معطيات أولها عمر الطفل، ويقول: لا شك في أن ترك الأبوين الأبناء وحدهم في المنزل يكون نتيجة اضطرارهما لهذا، ولكن عليهما إدراك كيفية التعامل مع هذه الحالة، والأهم في البداية أن يؤخذ بعين الاعتبار سن الطفل، فيجب أن يكون أكثر من 6 سنوات كأقل تقدير حتى يكون مدركاً لمخاطر أفعاله، وقادراً على فهم النصائح التي توجه له، ولا بد أن يجلس الأبوان مع الطفل ويتحدثا إليه ليقنعاه بضرورة الالتزام بالنصائح والإرشادات التي يقدمانها له لمصلحته، وأشدد هنا على الابتعاد عن تخويفه، فليشرحا له أن النار خطر، والاقتراب من النوافذ المطلة على أماكن مرتفعة خطر، وغيرها الكثير من الأمور، لكن بطريقة ذكية تضمن أن يشعر الطفل بالرهبة والخوف، أما الخطوة الثالثة التي يقوم بها الأهل، فهي الاستعداد لهذه الحالة من خلال حساب أسوأ الاحتمالات، ويتأكدان من توفير كل احتياجاته، فضلاً عن وسيلة تلهيه حتى نتحاشى الأفكار التي تراوده في حال شعوره بالملل. وتتعلق الآثار النفسية التي تتركها هذه الحالة لدى الطفل، بكيفية تعامل الأهل معها، بحسب الحرجان، ومن الممكن أن تترك آثاراً نفسية سلبية، فغياب الأبوين عن الطفل لوقت طويل يجعل الطفل منعزلاً، ويشعره بالقلق والخوف فضلاً عن صعوبة تعامله مع الآخرين، ومن الممكن أن تظهر لديه كنوع من العناد واضطرابات في الشخصية، لكن إن أحسن الأهل التعامل مع هذه الحالة فستؤدي إلى آثار إيجابية من الاعتماد على النفس، وتعزيز ثقته في قدراته. ويضيف: الحصول على نتائج إيجابية لدى الطفل يكون بتوفير أجواء جيدة للعب، وهاتف للتواصل معه والاطمئنان عليه بين الحين والآخر، فضلاً عن تقديره من خلال الهدايا والمكافآت على سلوكه الجيد وقدرته على الالتزام أثناء غياب الأبوين، وامتداحه أمام الآخرين حتى تترسخ هذه الصفات الجيدة لديه، ومن المهم جداً توفير الاحتياطات كإمكانية التواصل مع الآخرين، أو اختيار أشخاص موثوق بهم من الجيران يلجأ إليهم الطفل عند الضرورة. أخطار التكنولوجيا والفضول يبدو أن لعلم التربية وجهة نظر مختلفة، ينقلها د. علي الدوري، أستاذ في كلية الأم والعلوم الأسرية، على هيئة وجهة نظر خاصة، كوّنها على مدى سنوات من العلم والخبرة، قائلاً: لا يمكن ترك الطفل وحده في المنزل طالما أنه يحمل لقب طفل، خصوصاً في هذه الأيام، إذ إن الأطفال أكثر حركة ونضجاً وبلوغاً من الماضي، ولديهم حب الاستكشاف والاستطلاع، فطفل اليوم يفتح الكمبيوتر والأجهزة اللوحية وهو في عمر سنتين ونصف، ولا ننسى أننا في الماضي كنا نعوّل على وجود العائلة الممتدة ربما، والتي اختفت اليوم ليختفي معها دور الجد والجدة والأعمام والأخوال، كما أن الأدوات كانت محدودة في الماضي، ولم تكن هناك هذه التكنولوجيا المتطورة والخطرة على الأطفال في حال غياب الرقابة عنهم، إلى جانب الأخطار الأخرى المنتشرة في المنزل حولهم، والتي يفعلها خيال الطفل ورغبته في الاستكشاف والتجربة والفضول.
مشاركة :