«جنائن الشرق الملتهبة» .. حفريات جمالية في فلسفة المكان

  • 1/2/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

من خلال كتابه «جنائن الشرق الملتهبة.. رحلة في بلاد الصقالبة» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ودار السويدي، يكون الكاتب الجزائري سعيد خطيبي قد أحيا جنسا أدبيا مهجورا، وعبد طريقا للقادمين بعده، كي يسيروا على خطاه، ويوثقوا للمدن التي يزورونها، إذ سيفتح شهية كل من يرغب في تدوين رحلته، ويُشجعه ليمضي قدما في مشروع التدوين والكتابة، كما يكون خطيبي قد نفض الغبار عن أسماء رحالة كادت تخبو من الذاكرة، مثل ابن بطوطة وابن فضلان والإدريسي وحتى ابن خلدون، حيث يحيل كتاب «جنائن الشرق الملتهبة» إلى أسمائهم مباشرة، بوصفهم من كتاب الرحلة الكبار، الذين كان لهم الفضل في معرفتنا لعادات وتقاليد وجغرافيات وثقافات تلك المدن التي مروا عليها، من هنا تكمل أهمية رحلة خطيبي في بلاد الصقالبة، التي ستلقي بفائدتها المعرفية والتوثيقية والأدبية على شريحة واسعة من القراء. أثث خطيبي كتابه هذا بكم هائل من المعلومات، حول أعلام ورموز وشخصيات سياسية ودينية وثقافية، وبشكل أكبر وأوسع الشخصيات الأدبية، إذ كان حضورها كبيرا وطاغيا، بحكم ميول الكاتب، كما استطاع أن يلخص كل ما يميز كل دولة أو مدينة من خلال العنوان الذي يضعه لها، ليكون بمثابة بطاقة مختصرة لذلك الحيز المكاني، ما أعطى للكتاب دفعا آخر، وهالة شعرية، وسببا إضافيا للاطلاع على تفاصيله وخباياه، وقد استظلت هذه المدن تحت ظلال هذه العناوين فجاءت كالتالي: «ليوبليانا.. تمارين على محاكاة الصخب الصامت»، «غراد.. الزعيم يقرأ شعرا»، «زاغرب.. آلهة تتهيأ للرقص»، «سراييفو.. أمشي خلف ظلي وأردد أناشيد الطفولة»، «سربرنيتسا غيمة واحدة في وداع الفاجعة»، «بلغراد.. اشتراكي يُصفق ورأسمالي يغني»، «كييف شفشينكو يلعب الشطرنج». وعليه فإن رحلة الكاتب قبل أن تكون في جغرافيا المكان، كانت رحلة في عمق الماضي، وما يُدسه من أوجاع ومآس ودموع وقليل من الأفراح، نقل لنا شعور الخوف والهلع والترقب الذي يعيشه معظم سكان البلدان المذكورة، خوفا من عودة الحرب من جديد، خصوصا أن المنطقة تنام على جبل من الديناميت، التي خلفتها الحروب السابقة، بين المسلمين وغيرهم من العرقيات الأخرى، وقع فيها ما وقع، من قتل وإبادات جماعية، وتصفيات عرقية، ولدت نهرا من الحقد والكراهية لا ينضب جريانه أبدا، نقل لنا هالة الوقوف أمام مقابر الإبادات الجماعية التي حدثت للمسلمين بسربرنيتسا، فكانت مقبرة جماعية لأطفال وشيوخ ونساء ومجهولين، كما نقل لنا جماليات المنطقة، إذ رأينا بعينيه أنهارها الرقراقة، وخلجانها الصافية، وغاباتها الخضراء الممتدة، وأمطارها الموسمية، ودخلنا معه متاحفها المميزة، مقاهيها الشعبية، دخلنا لبيت الزعيم تيتو ومكتبته، حيث رأيناه كما رآه يقرأ شعرا، لكن للأسف لم يكن شعرا عربيا أو مترجما من العربية، رأينا بيته المتواضع، وهداياه التي جاءته من كل حدب وصب، كما تلصصنا على مدخل العشيقات الجميلات، سألنا من خلال هذا الكتاب تلك التماثيل المنصوبة في الشوارع، وصور الشعراء والكتاب التي عكستها أوراقهم المالية. استطاع سعيد خطيبي من خلال مرجعيته الثقافية والأدبية، أن يضعنا في صورة رحلته، التي تعكس بُعدا فكريا وحضاريا، حيث عرف كيف يُسرب المعلومة ويبثها بطريقة ذكية، داخل سياق ما يكتبه، ليُسهم بذلك في تثقيف القارئ وحثه على المطالعة لهؤلاء، بعد أن شوقه لما يكتبونه، أو ما أنجزوه، بالإضافة إلى نصه المثقف والغني بالمعلومة، هناك قيمة أخرى يمكننا أن نستشفها في هذه الرحلة، وهي قدرة الكاتب على الرصد والملاحظة، إذ لا نجد أي صعوبة في تخيل ملامح الأشخاص الذين التقى بهم، سواء من الناحية الفيزيائية أو النفسية، وحتى أنه لم يغفل تفاصيل العمران والمدن وما يميزها، وما تحمله من ثقل حضاري أو ثقافي ما، جاء كل هذا عن طريق لغة سردية انسيابية سلسلة، مفعمة بالحيوية وعبارات الوصف الجميلة، وروح التشبيه والمقارنة بين الأحداث والشخصيات والأماكن، من هنا أصبح للمكان فلسفة، وللزمان عبق ومكاشفة، وللطريق خطوات محسوبة ومدروسة. يقول الكاتب بعد نهاية رحلته والعودة إلى البيت «وجدت أني لم أحمل معي هدايا، ولا تذاكر، بل فقط ذكريات، بعضها حلو وبعضها الآخر بلا طعم، وصورا وملاحظات أعدت صياغتها في هذا الكتاب، وعطورا وروائح، معلقة في الذاكرة، لأناس قابلتهم ومدن زرتها، تنوعت تضاريسها، من جبال وغابات وبحيرات وانهار، وتتعدد فيها الأقليات والديانات، وتقف جميعها على صفيح ساخن، مدن جنائنية ملتهبة، تختزن بحزم أسرارها، ولا تكشف سوى عن القليل من خباياها، وتستحق دائما أن تعود إليها، بعد نهاية الرحلة وفصولها، أدركت أن الترحال، مهما اختلفت وجهاته، فهو يعيدنا باستمرار إلى بقاع عرفناها، إلى أمكنة عشنا فيها، وتنفسنا فيها لذّة الحلم»، ليخرج بعدها سعيد خطيبي بفكرة عامة عن الترحال والسفر إذ يقول «السفر إلى الخارج، ليس سوى عودة إلى الداخل». كتاب «جنائن الشرق الملتهبة.. رحلة في بلاد الصقالبة»، كتاب مهم ومميز، ووثيقة تؤرخ للحظة والمكان، وهو غنم موفور وتذكار أغلى وأغنى من كل التذكارات التي يمكن أن يتحصل عليها كاتب، وقد حاز صاحبه سعيد خطيبي على جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة 2015، في دورتها الـ11، فرع الرحلة المعاصرة، مناصفة مع الكاتب الإماراتي محمد عبيد غابش عن كتابه «غفوة عند الذئاب.. رحلات حول العالم»، وهي جائزة سنوية ينظمها المركز العربي للأدب الجغرافي «ارتياد الآفاق» في أبوظبي.

مشاركة :