للجمال معانٍ وتعريفات كثيرةٍ منها العميق جدا والسطحي، كما أن له قيماً ثمينةً وعزيزة على النفس والروح، الجمال شعور نسبي يتفاوت إدراكه حسب الفرد ذاته ومزاجه المتقلّب، ويختلف مفهومه عند كل فرد وآخر، ومجتمع وآخر وعصر وآخر تبدلات وتحوّلات وتطورات مستمرة، تستخدم العرب عدة ألفاظ للتعبير عن الشعور الجمالي والمتعة البصرية، ففيها العاطفة والشعور بالمتعة والسرور والرضا والإعجاب والبهجة، الدهشة والانبهار، عدة تعبيرات من عدة زوايا لا نحصرها، لكننا نسمعها ممن يحيط بنا لوصف الأشياء بالجميلة، وتحمل مصطلحات فيها استخدامات لها مستويات جمالية ذات تأثير في شدة الوقع على الإنسان، ومن ثم التعبير عنه لا إراديا بالأنَفَاس والصوت وتحديق العين ونبضات القلب وفرز هرمون الأدرينالين وراحة الأعصاب وإحساس وتأمل الموضوع والتعايش معه والتلذذ به. وقد وصف الإنسان بعبارات وكلمات لشدة متعته توضح لنا فلسفته عن الجمال ومدى شعوره به، رغم عدم الدقة اللغوية في استخدام ألفاظ للوصف؛ فالحلى والطعم تدركها حساسية اللسان وليست العين، كما أن الرائع والرهيب والفظيع والشنيع من الخوف والروعة وهذا شعور سلبي مقابل مشاهدة شيء إيجابي، ولخبطة في استخدام الحواس اللسان والعين، منها نسأل هل من الممكن أن يصل الحس الجمالي لمستوى عالٍ ومرموق جدا يصل بالفرد للخبطة والإرباك والهوس والخبل والجنون؟ في الحقيقة لما تجلّى رب العزة والجلال للجبل جعله دكاً، وخرّ نبي الله موسى عليه السلام صعقاً، وقد تقوم القيامة، فسبحان نور السماوات والأرض وبديعهما ومن عليهما وفيهما ربنا الخالق المصور العظيم. الجمال مسألة حسيّة إدراكية غامضة، حائرة بين العلم والفلسفة والثقافة والحياة، بين الجمال الرباني «الطبيعة والكون الكبير» والجمال الإنساني «الإنتاج الفني»، الموضوع «العمل» والذات «المتلقي» والعلاقة بينهما، الروح والعقل، الفنان وعمله، العمل والجمهور، البحث في الجمال ودراسته وتحليله ومراقبة تأثيره، والأهم غرضية الجمال فما زالت قضيته أشد غموضا؛ هل للجمال فائدة أم لا؟ ما فائدته للفنان المنتج للفن والناس المستهلكة له؟ وهل يستمتع الإنسان في كل وقته؟ ما الأشياء التي تجلب الفرح والسرور والمتعة وتثير البهجة عند كل فرد وفي أي مرحلة من عمره وعند أي حالة مزاجية له؟ تساؤلات وضعتنا في موضع إجابة عنها عند كل إنسان الذي يهوى الجمال ويعشق الفن ويكره القبح ومضاره وسلبياته. يُعرّف أستاذ الفلسفة في مدينة فرانكفورت الكسندر بومقارتن 1939 أول الأوروبيين الذين أسس ودرّس المسألة الجمالية كمادة علمية متخصصة جديدة في كليات الفلسفة ولها مباحث عرّف الجمالية بأنها علم نمط المعرفة والعرض الحسي، ودعاها بنظرية الإحساس أو الحساسية، وسمّاها استاطيقا Aesthetics وتبعه علماء وفلاسفة وأساتذة كثيرون لا مجال لحصرهم ورؤاهم الجمالية وجدلياتهم الفكرية العلمية النفسية الاجتماعية التاريخية الانثروبولوجية، تباحثهم في العاطفة والمشاعر والإحساس، وطرحوا مسائل التقدير الجمالي «تذوّق الجمال والاستمتاع به» والتفضيل الجمالي «اختيار الأجمل من بين البدائل» والحكم الجمالي «إصدار الحكم عمل جيد جميل أو رديء قبيح»، وتلك المسائل جدلية في البحث نسبية عن الفرد، تعود كل مرجعياتها للشيء وللفرد ذاته ودينه وخلقه، فالجمال كأحد أهم ميادين الفلسفة مرتبط بالخير والحق، وللعرب مساهمات سبّاقة في العلوم الجمالية في أدب وفكر الجاحظ، الجرجاني، الفارابي، ابن سينا، التوحيدي، الغزالي وغيرهم من المحدثين. في ظل هذه الجماليات تلعب القيم الإنسانية والدينية - القانون والشريعة - دور مهم ومؤثر في السلوك الجمالي عند الأفراد؛ ففيه إفراط وتفريط وتطرف واعتدال وإهمال وعبثية، يوضّح مصدر الجمال السرمدي الحكمة من الجمال والحذر من فتنته وقبح التطرّف في كتابه الكريم: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) الكهف 7، وقال عليه السلام معلّم البشرية وقدوتها من أنعم عليه رب العالمين بالخلق العظيم (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). و(إن الله جميل يحب الجمال)، وحثنا ديننا الحنيف بحسن المنظر وبهاء الصورة والتزيّن والتطيّب والتطهّر الدائم فالله طيب لا يقبل إلا طيّبا، وحث على غرضية الجمال بالنفعية عند الفنانين والمصممين والناس بمختلف مجالاتهم (خير الناس أنفعهم للناس). ختاما، مستقبل الجمالية غامض كوضع الجمالية المعاصرة الآن لا اتجاهات ولا رهانات، فصانعها هو الفنان المبدع البارع الماهر في التحاور الجمالي البصري مع جمهوره، إذا نما وتطور وارتقى وسما بنفسه وروحه وخلقه رَقَت الجمالية معه، وتنحط بانحطاط الإنسان فهي تبعه وانعكاس لحسه وإدراكه ومشاعره وخُلُقه، فبعد أن بنت البشرية ذروة إنتاجها الجمالي في أوروبا، انحطت أخلاق الناس ودمّروا كل جميل، وتبدل الإدراك والمفهوم الجمالي، ودخل الجمال في القبح والقبح في الجمال، وكأنه يُراد بهذا التبدّل تبديل مراكز الثنائيات بعد استحالة دمجها ومزجها، فما زال الجميل جميلا والقبيح قبيحا وبينهما أمور مشتبهات، فلنتق الشبهات ونستمتع بالجمال الرباني الذي أغنانا عمّن سواه، ونأخذ من الجمال البشري ما ينفع معيشتنا ويجمّل حالنا.أكاديمي وفنان تشكيلي إيمان العلاوي كفيفة سعودية تتذوّق جماليات الفنون البصرية بريشة عصام عسيري
مشاركة :