تستطيع قذائف الطائرات الإسرائيلية أن تُسقط الأبراج في قطاع غزة وأن تدمّر أنفاق «حماس». وتستطيع اغتيال قادة الحركة ونشر الخوف والذعر في القطاع المحاصَر بهدف إخضاعه وإرغامه على الانقلاب على «حماس» والتراجع عن دعمها. وتستطيع صواريخ «حماس» أن تصيب أهدافاً داخل إسرائيل، وصولاً إلى تل أبيب، وأن تنشر الذعر كذلك في أحياء إسرائيلية كانت تشعر أنها بعيدة عن الصراع مع الفلسطينيين وفي مأمن منه. كانت تشعر أن هذه الحرب تقع في مكان آخر أو في بلد آخر. لكنّ تلك الصواريخ حملت الحرب إلى تلك الأحياء، وصار سكانها يشعرون أن الهدوء المصطنَع في تل أبيب لا يضمن سلاماً دائماً. لكن لا قذائف طائرات إسرائيل ولا صواريخ «حماس» هي وصفة لحلّ هذا النزاع التاريخي الذي يدخل عقده الثامن، الذي هو أشبه بـ«حرب وجود» بين شعبين يحملان إلى هذا النزاع كل ما هو موروث من التاريخ والدين وملكية الأرض وذكريات الأزمان الغابرة. لم تعد القوة وحدها قادرة على «حل» هذا النزاع رغم ما توفره من تفوق لإسرائيل، في الأرض وفي الجو، وبكل أنواع التقنيات العسكرية المتقدمة. كما لا يصح أن يدفع انغلاق الأبواب في وجه الفلسطينيين إلى الاقتناع بأن صواريخ «حماس» سوف تحرر فلسطين. وقد يكون تكراراً صار مبتذلاً القول إن إدراك الجانبين لهذه الحقيقة يمكن أن يكون مدخلاً لشيء يشبه الطريق إلى حل. جرّبت قيادات إسرائيل قدرتها وتفوقها العسكري في سلسلة من الحروب مع دول عربية وفي سلسلة مواجهات مع الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة. وانتصرت في معظم تلك الحروب والمواجهات، وتمكنت من توسيع مساحتها الجغرافية، واحتلال أراضٍ وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من بيوتهم منذ عام 1948 إلى اليوم، وسقوط ضحايا عديدين من بينهم. ورغم ذلك لم تتوصل إلى الحل الذي يسمح لها بإغلاق دفاتر هذا الصراع ومحوه من الذاكرة الفلسطينية... كأن شيئا لم يكن. كانت لغولدا مائير مقولة شهيرة تكررها: «لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني». وانتهى الأمر بإيهود باراك بعد ربع قرن على غولدا مائير ليتحدث عن حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم بقوله: «لو كنت فلسطينياً لأصبحت بالتأكيد فدائياً». ومثلما لم تذهب إسرائيل إلى البحر، كما كان يحلم بعض غلاة العرب، سوف تُفاجأ هي أيضاً بأن الفلسطينيين ما زالوا هنا، وأن قضيتهم سوف تظل تُقلق إسرائيل وتحْيي ذكريات كانت تفضِّل لو ينساها الفلسطينيون والعالم... ما دامت هذه القضية باقية من دون الحل العادل الذي تستحقه. كان رهان قادة إسرائيل منذ إقامة دولتهم على أنها ستتحول مع الوقت إلى دولة «طبيعية» في محيطها العربي. سوف يندمج الفلسطينيون الذين تم تهجيرهم من بيوتهم في البلدان التي لجأوا إليها، وسوف تتكفل السنين بإزالة صور البيوت المهجورة من الذاكرة، وسوف يتكفل القتل المتكرر بدفع هؤلاء اللاجئين إلى طلب الرحمة والسلامة واللجوء إلى حيث يمكنهم أن يلجأوا، ورمي مفاتيح البيوت التي حملوها معهم وأورثوها أولادهم وأحفادهم ومعها صكوك البيوت. وسوف تستقر إسرائيل على خريطة العلاقات والمؤسسات الدولية بين مجموعة الدول التي تملك حق السيادة على الأرض وعلى القرار. ولولا الذاكرة الفلسطينية التي تأبى النسيان، كان يمكن لكل ذلك أن ينجح. وكان يمكن للمشروع الإسرائيلي أن يستقر كما شاء له مؤسسوه: دولة لليهود، تستوعب من أنحاء العالم ما توفر لها أن تستوعب، وتنشر المستوطنات على الأراضي الفلسطينية. ومجموعة عربية اختارت البقاء، لا يتجاوز عددها خُمس عدد السكان، سوف تجعل القوانينُ العنصرية الجديدة أفرادَها «مواطنين» من الدرجة الثانية، بعدما وُضعت خصيصاً للتمييز ضدهم. وكيف لا يكونون كذلك وهوية الدولة بتعريفها أنها «دولة لليهود»؟ 73 عاماً مرت ومعها ثلاثة أجيال من الفلسطينيين. وها هي المدن والبلدات العربية التي كانت إسرائيل «تفاخر» بتعايش أبنائها داخل الدولة العبرية، وبـ«الحقوق» التي توفّرها لهم، ينتفضون ضد احتلال أرضهم، تماماً كما ينتفض أبناء القدس ورام الله وبيت لحم، ومثلما ينتفض أبناء خان يونس وغزة. وما الذي يوحّد هؤلاء؟ أليس هذا سؤالاً يستحق أن يطرحه قادة إسرائيل على أنفسهم؟ وهل يمكن الرهان على القوة وحدها وعلى بقاء موازين القوى الدولية على ما هي عليه اليوم ليجنّب إسرائيل الحاجة إلى البحث عن حل آخر، حل يكون أقل كلفة وأكثر ثباتاً على الأرض؟ ثلاثة وسبعون عاماً مرت على «النكبة» الفلسطينية. تريدها إسرائيل أن تكون زمناً كافياً لمحو صور التهجير وذكريات المجازر من الذاكرة الفلسطينية. 73 عاماً من ذاكرة الفلسطينيين في مقابل ألفي عام من الذاكرة اليهودية، تتحصن بها إسرائيل للدفاع عما تزعم أنها حقوق لها في القدس «العاصمة الأبديّة»، وفي محيط المسجد الأقصى وفي حي الشيخ جراح. الذاكرة الإسرائيلية مديدة في التاريخ ولا تسقط «حقوقها» بعد آلاف السنين. لكن الذاكرة الفلسطينية ملزمة بالموت تحت وابل نيران المدفعية وقصف الطائرات. لم يعد العالم مقفلاً كما كان في عام 1948. لم تعد روايات الجدّات وحدها تنقل أخبار المجازر. العالم اليوم يعيش على وقع الأحداث لحظة بلحظة، والقذيفة التي تدمر برجاً في غزة تقيم فيه مكاتب مؤسسات إعلامية، أو تقتل أطفالاً ينامون ليلة عيد الفطر إلى جانب أهلهم، هذه القذيفة تصل صورتها إلى العالم كله في لحظة سقوطها، ولا يرى العالم من خلالها سوى تجاوز لقواعد استخدام القوة في الحروب ولأصول السلوك الإنساني مع الأهداف المدنية في تلك الحروب.
مشاركة :