إنّ التقيّد بالمذاهب في العالم الإسلامي، والتّسمي بها، والانتساب إليها؛ أوحى إلى كثير من المسلمين، أنّ الحقيقة عندهم، والصواب في أيديهم، وكان هذا وراء الثقة بالموروث، والجزم بما فيه، والإقبال على اليقين، والابتعاد عن الشك والظن.. من الحكمة أن يُظهر الإنسان وجهة النظر الأخرى متى وجد الآخرين مقبلين على غيرها ومقتصرين عليها! لئلا يعزب عنهم أنّ ما يقولونه، ويذهبون إليه، كان لهم فيه مخالف، ولرأيهم حوله معارض، وتلك كانت سيرة سفيان الثوري في قوله: "إذا كنت في الشام فاذكر مناقب علي، وإذا كنت في الكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر" (الحلية، 5/ 344). هذي حكمة دعا إليها أمران: الأول: أنّ أجواءنا الذهنية مملوءة باليقين والاستسلام لما عرفناه، والثاني: أنّ وصف الحال هو غاية الباحثين وواجبهم الذي يُنتظر منهم القيام به، والتحمّل لأثقاله. ينزع المسلمون إلى اليقين، ويلتفّون حوله، ويبتعدون عن الشك، ويزورّون عنه، وهذه الحال تخلق جواً عاماً، يدفع الناس إلى التسليم بما يسمعون، والإذعان له، والتصديق بكل ما فيه، ويغيب في مثل هذه الأجواء العقل الشاكّ، والذهن المتسائل، بل يكره الناس هذين، ويعدونهما من عمل الشيطان، ويرون أنّ مَنْ وفى لتراثه، واعتزّ به، فلا ينبغي له أن يشكّ فيه، ويداخله الظن حوله، وفي مثل هذا يكون من الواجب أن يُبعث من التراث ما ينصر الشك، ويُقوّي جانبه، حتى تبدو صورة الماضي كما كانت، وليس كما أراد أهلها لها، فيكون من نصرة التراث، والثناء عليه؛ أن يُجعل ثمرة للذهن الشاكّ، والعقل المرتاب، فيكسب الشك، ويتقوّى جانبه، وهذا ما قصدتُ إليه، وأحببتُ المسارّة فيه. أيّهما أقرب إلى تراث المسلمين والعرب: أصحاب اليقين أم أصحاب الظن والرَّيب؟ مَنْ يُمثّل الأُمّة في رأيه، ويَحكيها في نظره، المتيقّن من قوله أم المرتاب منه والمتوجس؟ الذي أذهب إليه، وأرى الضرورة تدعوني للقول به، هو أن الظانّ المرتاب أقرب إلى التراث، وألصق به، وأصدق تمثيلاً له، وأمّا المتيقن القاطع فمضطر أنْ ينحاز لمذهب، ويدعو إليه، ويُمجّد رجاله، ويُحيل غير أقواله، ويُجهد نفسه في سبيل الدفاع عنه، والتأويل لأخطائه، ومثلُ هذا يكون التراث عنده ما عرفه في بيئته، وتلقّاه فيها، وأخذه عن أهلها، وهذا على الحقيقة بعض التراث، وطائفة منه، وليس يُقبل من أحدٍ أن يختصر دلالة التراث في ما ورثه وعرفه، ويجحد سواه، أو يتنكّر له، وإذا كنا متجهين إلى قبول مثل هذا، والتصديق به، فقد صيّرنا التراث تراثات، وفرّقنا العقل الإسلامي إلى عقول، وجعلنا التجربة الإسلامية تجارب شتى، واندفعنا إلى نصرة هذه على تلك، وتقوية هذا على ذاك، وكان في مقدورنا أن ننتفع من الجميع، ونأخذ منهم، ونمنع إعادة قصة الصراع بينهم! هذه هي الثمرة التي خرجتُ بها، بعد أن أبصرتُ أنّ المسلمين يرجعون إلى مذاهب مختلفة، وينتمون إلى مدارس متباينة، ويجتمعون جميعاً على التمدّح بالتراث والثناء عليه، فمَنْ هذا قوله، وتلك قناعته، يحسن به أن يقف، مع اختياره طائفة ما، موقف المعتزّ بالتراث كله، والمثني عليه، وإن كان لم يأخذ به، ولم تمل إليه جماعته، فأمر الاختلاف بين الناس لا ينبغي أبداً أن يكون العلة وراء التهوين من الآخرين، والتشويه لما هم عليه، وسوء الظن بهم؛ فالاختلاف سنّة جارية، وحالة متواترة، وليس لمثل هذا يتنازع الناس، ويَشين بعضهم بعضاً، وتحمل منهم طائفة على غيرها، وإذا كنّا ورثنا شيئاً من ذلك عن الماضي، وغلب علينا خطابه، فجدير بنا أن نجعل ما رُوي عائداً إلى حال التنافس بين الماضين، كما هي الحكاية المعروفة عن البصريين والكوفيين في اللغة والنحو، وكما هي القصة المروية في التنافس بين أبي حنيفة وابن أبي ليلى حتى قال أبو حنيفة عنه: "ابن أبي ليلى استحلّ منّي ما لا أستحلّ من سِنّور" (البصائر والذخائر، 9/ 213) جدير بنا ونحن نعيش بعد أولئك بقرون من الزمان، وتفصلنا عنهم عقود من السنين؛ أن نجعل الجميع سواء، وندفن ما كان مما لا نُحبّ، ونُظهر أنفسنا توّاقة لكل ما رُوي، فبمثل هذا الموقف نكون أنصاراً للتراث، وأشياعاً له، ويغدو الماضي وحدة تجمعنا، وآصرة تُؤلّفنا، وخبراتٍ مختلفةً تُغذي عقولنا، وتصقل مواهبنا. إنّ التقيّد بالمذاهب في العالم الإسلامي، والتّسمي بها، والانتساب إليها؛ أوحى إلى كثير من المسلمين، أنّ الحقيقة عندهم، والصواب في أيديهم، وكان هذا وراء الثقة بالموروث، والجزم بما فيه، والإقبال على اليقين، والابتعاد عن الشك والظن، ومتى ساد مجتمعًا ما عقلٌ جازم، وفكرٌ متيقن؛ فلا غرابة أنْ يرى نفسه فوق العالمين، ويضع اللائمة عليهم، ويذهب بعيداً في العيب لهم، والتنديد بأقوالهم، ويُخيّلَ إليه أنّ مصطلح التراث حين يُطلق يُراد به تراثه، ويُقصد به ما عرفه وتعلّمه، ولا يزعجه بعد ذلك أن يُذمّ تراث الآخرين بين يديه، ولا يستثيره أن يرى مَنْ يحطّ منه، ويهجم على أعلامهم، وينتقص منهم.
مشاركة :