صعب على النفس جدا أن يكرر الكاتب كتابة نعي بينهما شهر واحد فقط، ولكنها أقضية الحق في الخلق.. قبل أربع مقالات كتبت رثاء عن شخصية مميزة، واليوم أعيد ذات الأمر عن شخصية مميزة أخرى، بل وفريدة في تميزها؛ ذهبت ضحية لحادث أليم، تسبب فيه قائد سيارة متهور؛ فجر الخميس الماضي، ولا راد لأجل الله.. أكتب عن فقيد تعرفت عليه قبل أكثر من ثلاثة عقود، وما عرفت عنه إلا كل خير، في المقال، والفعال.. فقيدي، وفقيد الأسرة التربوية والاجتماعية بمكة المكرمة الأستاذ محمد نور محمد نور أحمد عبدالمقصود قاري -رحمه الله- لا يحب الواحد منا إلا أن يرى نفسه مثله: شهامة متناهية، كرم عجيب، بيت مفتوح، قلب حنون، حريص على مجالس العلم، مداوم على مجالس الثقافة، يشجع طلابه، ويأخذ بأيديهم، أب رائع، معلم قدوة، يحب جميع الناس، ويحبه الجميع، يبذل كل مساعيه في التوسط في الخير، دائم السؤال عن الناس، مؤدب جدا، همة عالية، لا تعرف الزلات طريقا إلى لسانه، ولا تعرف يده تطاولا في الحرام، وفوق هذا كثير.. الأستاذ محمد نور قاري، لم يكن من أصحاب الذوات، والهيئات، ولكنه كان رجلا من أصحاب المروءات.. المروءة عند الأستاذ محمد نور سجية ملحوظة؛ كان بعضها هبة من عند الله تعالى، ويقيني أن بعضها الآخر اكتسبه من مخالطة العلماء الأفذاذ، والرجال الأوفياء كالسيد علوي مالكي، والشيخ محمد نور سيف، والشيخ محمد العربي التباني، والسيد محمد رضوان، والأستاذ عبدالرحمن دوم، وقدوته الكبرى الشيخ عبدالله بصنوي.. ذكرت المخالطة والمجالسة هنا؛ لعلمي الأكيد بتأثير ذلك على حياة الراحل، وتأثير ذلك على حياة النشء، وأتذكر في هذا الصدد ما أسنده الحافظ العلامة الإمام ابن حبان البستي في كتابه الشهير (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء) عن بعضهم: "كان يقال: مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلب صدأ الذنوب، ومجالسة ذوي المروءات تدلُّ على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تذكي القلوب.. وإن عاشر المرء إخوان السوء، وقليلي المروءَة أخذ عنهم أخلاقهم، وكان ذلك سببًا في القدح بمروءته".. الأستاذ محمد نور الذي شهد تشييعه الجم الغفير من مختلف طبقات المجتمع، خلد اسمه بأخلاقه العالية بين أحبابه، وسيفتقده كثيرا من عرفه من أصدقائه، وخصوصا رواد منتداه الأدبي الثقافي الذي كان يقام في الهواء الطلق، مقابل دكان إصلاح الساعات، الذي كان يعمل فيه هو مع خاله ومربيه العم الشيخ نور مقصود الساعاتي، أمام باب الملك عبدالعزيز، مدخل المسجد الحرام. لدي دلائل على كل ما قدمت من محاسن للفقيد، ولدى غيري من معاصريه، ومن عمل معه، ومن تخرج على يديه أكثر مما لدي، ولا أقول إلا سبحان ربي الذي وهب هذا الفقيد ما وهبه من مكارم الأخلاق، حتى بات من الصعب على أي من معارفه، وما أكثرهم؛ أن يقول إن الراحل قد أساء إلي، أو إلى من أعرف يوما ما؛ بكلمة أو حتى بهمسة، بقصد أو حتى بدون قصد.. أسأل الله أن يرحم فقيدنا الغالي، وأسأله أن يعظم أجر جميع أحبابه، وأن يعوض الكل خيرا في أبنائه عبدالله وأحمد وعبدالرحمن، وينزل مزيدا من الصبر والسلوان على قلب والدتهم الكريمة، وشقيقتهم المصون، وإخوانه، وقرابته. خاتمة: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
مشاركة :