بمجرد تخرجي من كلية الهندسة بجامعة القاهرة العريقة، تقدمت لوظيفة بجهة حكومية مرموقة وتم بالفعل قبولى للعمل فيها براتب يرضى طموح شابة حديثة التخرج. ومع ذلك كان لدى شعور يدفعنى للبحث عن فرصة أخرى تلبى طموح أكبر فى العمل وتستوعب طاقتى التى طالما خططت لتوجييها نحو التعلم واكتساب المزيد من الخبرات. وذات يوم، كنت أتحدث مع إحدى صديقاتى التى تعمل فى إحدى شركات القطاع الخاص، أخبرتنى أن الشركة تحتاج مهندسين مبرمجين لمشروع ضخم فازت بتنفيذه ويتبع هيئة قناة السويس. لم أفكر طويلاً، بل لمعت عيناى وتحمست كثيراً للالتحاق بهذه الشركة، وبالفعل تركت الميرى رغم أن الراتب فى الشركة الخاصة حينها كان أقل، ولكن فرص التعلم كانت أكبر فى مشروع تحديث وميكنة لإدارة التموين بهيئة قناة السويس. كنت أدرك قبل بدء العمل بالمشروع قدر وعظمة هيئة قناة السويس، ولكن تحول الإدراك إلى يقين تام وإيمان كامل بقدراتها وأهميتها بعدما خطونا خطوات عديدة فى المشروع وتوالت زيارتى مع قيادات الشركة والزملاء للهيئة، وخصوصاً بعدما قرر مديرى المباشر فى بداية المشروع أن يحملنى مسئولية تطبيق "الصيانة الوقائية" لجميع مركبات ومعدات الهيئة كقاطرات الإنقاذ والكركات التى تعمل على توسيع القناة والعربات وغيرها من المعدات الكبيرة والثقيلة. استمر المشروع ١٨ شهراً كان عنوان حياتى فيها "بورفؤاد رايح جاي"، إذ كنت استيقظ فى الخامسة صباحاً للحاق بأتوبيس السوبر جيت الذى يتحرك من ميدان التحرير الساعة السادسة والنصف صباحاً ليبدأ رحلة تستمر ثلاث ساعات ونصف على الأقل حتى الوصول إلى مدينة بورسعيد الباسلة الساعة العاشرة صباحاً، ثم أتوجه إلى المعدية لتنقلنا جميعا سواء أفراد أو سيارات أو حتى عربات حنطور إلى البر الآخر من القناة، وذلك فى مشهد ممتع يعيد شحن من يراه بالطاقة الإيجابية وسط رحلة بحرية على أمواج قناتنا العظيمة. بعد حوالى 6 ساعات من الاستيقاظ، أصل إلى مقر العمل ببور فؤاد حوالى الساعة الحادية عشر صباحاً وعلى عاتقى معاناة ومشقة السفر، ولكن عند مرورى ببوابة هيئة قناة السويس ينتابنى شعور باليقظة والشغف لإنجاز العمل وسط مشاعر بالفخر للمشاركة فى هذا الإنجاز العظيم. ويزاد الفخر عند مقابلة المهندسين والفنيين العظماء بالهيئة. وبعد هذه الرحلة الشاقة، يبدأ العمل فى جلسات طويلة مع مهندسين أكفاء لشرح الدورة المستندية ودراستها وتحليلها والعمل على إعادة هندسة العمليات، ثم مراجعتها معهم. وبعد إعتماد تلك المستندات، أعود لمقر الشركة بالقاهرة لتأتى مرحلة تصميم قواعد البيانات ثم البرمجة والإختبارات قبل أن أعود مرة أخرى إلى مقر الهيئة ببور فؤاد أو مبنى الإرشاد بالإسماعيلية. وفي كل مرة كانت المواصلات العامة هي وسيلتي الوحيدة للانتقال من مكان إلى اخر، وكان موقف القللي هو نقطة البداية في رحلة العمل. ورغم أن هذه الفترة كانت من أكثر أوقات الشقاء البدنى فى حياتى، إلا أنها كانت من أكثر الفترات المثمرة فى حياتى، ولا أسعد أنذاك من الوصول إلى مرحلة جنى الثمار، وهى تقديم تطبيق من تصميمى للصيانة الوقائية، وتدريب المهندسين على استخدامه وسط فرحة عارمة كفريق عمل واحد عندما يصدر التطبيق إلكترونياً التقارير والمؤشرات التى سهّلت العمل بشكل غير مسبوق. وبعد الانتهاء من تسليم المشروع والاحتفال بهذا الإنجاز، قلت زياراتى لمقر الهيئة فى بورفؤاد وأصبحت مرة كل شهر أثناء فترة الضمان ثم مرة كل ٣ شهور أثناء فترة الصيانة، وكانت دائما تلك الزيارة من أسعد اللحظات فى حياتى. مرت السنون، وانتقلت من عمل إلى آخر ولم تغب عن ذاكرتى أبدا المدينة الباسلة وذكرياتى معها، حتى جاءت الفرصة لزيارتها مرة أخرى عام 2014، حيث شاء القدر أن أزور هيئة قناة السويس بالإسماعيلية مرة أخرى بعد سنوات من الغياب، ولكن هذه المرة برفقة دولة رئيس الوزراء آنذاك المهندس إبراهيم محلب عند تدشين السيد رئيس الجمهورية لمشروع إزدواج القناة، وكنت حينها أشغل منصب مدير مكتب دولة رئيس الوزراء. وأثناء تفقد مبنى الهيئة، جاء كبير مهندسى الهيئة لتحيتى وشكرى على مشروع الصيانة الوقائية وقال أنه يعمل حتى الآن ونستفيد منه وكان ذلك أمام الفريق مهاب مميش! وكنت حينها فى قمة السعادة والفخر! يا لها من لحظات لا تستطيع الكلمات وصفها حينما ترى ثمرة عملك باقية ينتفع بها جيل بعد جيل، فها هى قناة السويس نفسها التى تعد بوابة العالم بعد أن حفرها الأجداد لا تزال علامة مضيئة نفخر بها ويستفيد منها العالم أجمع بعد أن قلصت المسافة بين دول الشرق والغرب ب 8700 كيلو متراً مقارنة مع الطرق القديمة التى كانت السفن تدور فيها حول أفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح. وها هو مشروع إزدواج قناة السويس علامة فارقة ومضيئة فى تاريخ مصر الحديث، وها هو كل عمل ننجزه بأيدينا اليوم مهما كانت المشقة سيظل نوراً ونبراساً يستنير به كل من يسير على الدرب، درب حب الوطن والإخلاص فى العمل، لتحيا مصر بسواعد وعقول وإيمان أبنائها الأوفياء المخلصين. تحيا مصر.
مشاركة :