تقرأ بعض الأعمال الروائية فلا تكاد تبدأها حتى يغالبك النعاس أو يداهمك الشرود الذهني الذي يجعلك تقلّب الصفحات كأنك مثقل بواجب إنهائها. بعضها الآخر ينجح في جذبك لتكون متفرجًا على ساحة أحداثها ومتفاعلاً مع تحولاتها. منحازًا أو محايدًا حينًا آخر: مؤيدًا أو معترضًا. تعتريك مختلف المشاعر بحسب تصاعد وتلون وتجدد سردياتها، وهكذا كانت حالتي مع رواية الباب الطارف لعبير العلي. مع انهماكي في قراءة الرواية نازعتني رغبة الوصول إلى نهايتها، فقد كنت مشدودًا مع الصدمات العاطفية والخذلان الذي أصاب "حنين"، لكن اندماجي ولهاثي مع تقلبات الرواية يدفعني إلى محاولة الإبطاء والتروي حتى لا أصل إلى النهاية، مما سيعني عندي نهاية متعتي مع أحداث الرواية، يحتفل الباب الطارف بالحب الصادق والعفوي وفق رومانسية عذرية تفرضها الأنماط المعيشية التقليدية في مجتمعنا، وهي تنجح إلى حد كبير في نقل القارئ إلى أجواء المدن العسيرية في توصيف دقيق لطرز البناء والمعمار، وتدخلك أجواء العائلة الممتدة وتراتيبية الأدوار ومهابة الكبار وسطوتهم (الجد حسن المهيب والجدة عطرة والعم سعيد الذي يمثّل ساحة الحرب الداخلية في منزل العائلة). ما يميز الباب الطارف أنها تجعلك أحد أطراف القصة وأحد المتفاعلين مع مجرياتها، بل ستجد نفسك في شخصية "سعد"، لكنك ستتحول- لاحقًا - إلى بغضه والحنق تجاه - سوء خاتمته - المفاجئة بحق بطلة الرواية، حيث تجدك منحازًا إليها وإلى مواقفها الانتقامية / الناقمة، ثم ستتفاجأ بعد ذلك ببراءة "سعد " لتعلم أن الأمر كله قد دبّر بليل، وأنه ضحية يتساوى في ذلك مع محبوبته "حنين". لقد وجدت بعضي في أحداث الرواية وأثق - تمامًا - أن كثيرًا منا قد خطفتهم لوثة العشق وأرقتهم سخونة الوله، وكل الذين عبروا تلك القنطرة لابد أنهم اكتشفوا أن ألذ العذابات هي عذابات الحب المختلس أو الحب المسروق الذي ينبت في البيئات المحافظة. لقد نجحت الأستاذة عبير العلي في نقل أبها بكل أطيافها وتنوعاتها الاجتماعية والثقافية، وأدخلتنا في طقوسها وأجوائها الضبابية وتحولاتها من التسامح إلى التشدد. وجعلت أبها تستيقظ في ذاكرتنا منذ بداية فصول الرواية ومع أول لمحات الحب بين سعد وحنين، وهي في ذلك كله وخلال كل سطور السرد تقدم لنا "خريطة طريق" لأبها.. أسواقها وأجوائها وعاداتها وأهلها وطقوسها وربيعها وخريفها ويسرها وعسرها وترحلات أهلها كسبًا للعيش وعودتهم الموسمية في الإجازات والأعياد. تبدأ شرارة القصة عندما فتحت حنين اللفافة لتجد ورقة مكتوبا فيها بخط واثق "حنين أحبك"، ومع بداية ارتجاف الجسد وقشعريرته خوفًا من هذا الإفصاح عن الحب الذي هو "جريمة لا تغتفر في شرع العائلة". ثم إلى أن يبدأ صفير الرياح مع هزيع الليل ليبدو كنواح، ثم بعد أن يأتي العم صالح مصحوبًا بوالد سعد وشقيقه لإبلاغ حنين باستشهاد "سعد" في معركة تحرير جبل الدخان. لكن الرواية مع كل هذا التدفق التراجيدي الحزين ومع كل هذه النهايات السوداء لبعض فصولها إلا أن الأستاذة عبير وفي لحظة فارقة تمنح الرواية امتدادا لا نهائياً عندما تقول مخاطبة روح سعد "لا أريدك أن تخاف علي من الوحدة أو على وجودك من النسيان حتى ولو غيّبك الموت كنت كثيراً جدًا.. بهذه الروح التي أودعتها داخلي قبل رحيلك كأنك تنوي أن تغيب للأبد. روح بدأت أول ركلاتها في أحشائي اليوم لتخلّد سعدًا آخر". تتداخل أحداث الرواية وتتغير صعودًا وهبوطًا بحسب حالات الأداء لشخوصها الذين يسيطرون على مسرح الأحداث، ابتداءً من الجد الصامت حسن المهيب الذي تمرد على الفلاحة والرعي طمعًا في تجارة تخرجه وأسرته من "أسمال الفقر"، مرورًا بزوجته "عطرة" التي ورثت هيبة والدها "مانع" مع رقة والدتها الألمعية، فاجتمع لها لين الشيح وشموخ العرعر، وصولاً إلى "هاجر" وسيط الحب، والعم الطيب صالح الذي يقف متسامحًا إلى صف حنين مؤيدًا ونصيرًا، وهو الذي عانى كما حنين من سورة الحب، بل هو الذي سعى إلى حب شريفة ليستشفي من حب نورة، شريفة التي بدأ صلته بها عابثًا، ثم تخلل حبها شرايينه، فاستطاعت بسطوة حبها أن تعيد صياغة حياة "صالح"، فيكمل دراسته الجامعية ويصبح مدينًا لها بكل ما وصل إليه من مستوى علمي وعملي ليؤكد أن شريفة كانت نورًا يستحق أن يعشقه في النور، لكن صدمته جاءت من والده وهو يقول له يا ولدي الحجر ما تبنى في غير أرضها، بما يعني استحالة زواج صالح من شريفة وفق معايير المجتمع والقبيلة. لغة الرواية: تميزت الرواية بلغة سردية جميلة فيها شاعرية عبير العلي التي أشرقت في كثير من الجمل والمفردات والاستشهادات الشعرية أو الغنائية بفيروز وطلال مداح ومحمود درويش والثبيتي والماغوط، لكن لغة عبير العلي هي التي تجلّت حقيقة في كثير من مفاصل الرواية ودهاليزها وفي كثير من الصور اللفظية والأخيلة الكلامية: 1- العم سعيد يملك حاجبين غليظين ولحيته الكثة تثير فزعي وأنا صغيرة وهو يقبضها بكفه ويضع طرفها في فمه ويركض باتجاهي. 2- كنا أكثر اخضرارًا حتى فهمت مع تقادم العمر أن الحياة تكتسب لونًا أسود. 3- من يحب لا يكره: فقط الخذلان يقتل الحب ويحوله لطيف شاحب. 4- المرأة مع تقدمها في العمر لا تطيق احتمال بقاء الكلام داخلها كثيرًا. 5- متى أصبح وجه الإنسان عورة يخشاها ويداري ظهورها. 6- تتدلى ابتسامتك من سقف الغرفة كدراقة ناضجة أقطفها وأنام. 7- الجمرة في البدء طاغ توقدها لكنها تخبو وتتلاشى وهكذا الغربة. 8- فقير من زاده الذكرى. 9- الماضي ينبغي أن يكون مصدر قوة لا ضعف نتوارى خلفه نكبل به أيامنا. 10- لا يخلق الفوضى في حياة رجل إلاّ أنثى ولا يرتب فوضاه إلاّ أنثى أخرى. 11- كانت شريفة نورًا يستحق أن أعشقه في النور. 12- فقدنا للأشياء / للأشخاص برهان حياة، فمن لا يفقد شيئاً هو بالضرورة ميت. 13- ماذا يريد وقد هز جذع محبته بيمين الخيبة حتى تساقط من قلبي ورقة.. ورقة. 14- هذا هو سعد يأتي مطرًا على حرائق الروح. 15- تبقى المرأة كالأرض شاسعة لا يعلم المرء ماذا تخبئ تحتها. 16- ترحل: ينازعني فيك الوطن ولا أملك إلاّ التسليم / سأشتاق لكرز ضحكتك وأمان يدك. 17- حتى لو غيّبك الموت. كنت كثيرًا جدًا فلست بعدك اليوم وحيدة. وبعد: (الباب الطارف) بوح مباشر وإفصاح عن قصة حب وقصة مدينة وقصة عادات وقصة تحولات، سرد لتاريخ ورصد لثقافة وتوثيق لمجتمع يتغير، فيها ما هو واضح وجارح، وفيها ماهو معلن، وما هو بلسان المبني للمجهول. فيها شفرات إيحائية، وفيها إسراف سردي. أبطالها حنين وسعد وعطرة وصالح وهاجر وسعيد وأبها وجدة والرياض والشمال والجنوب، ووطن الرواية كلها بدأ مع حنين واستمر إلى ما لانهاية مع ركلات الجنين.
مشاركة :