ربما تكون حاملات الطائرات الأمريكية إحدى أهم أدوات الدبلوماسية الأمريكية الخشنة، كلما استدعت الأزمات ذلك. مياه الخليج (العربي) احتضنت حاملة طائرات أمريكية بشكل دائم، ودون أي انقطاع على مدى ثماني سنوات متّصلة منذ عام 2007. لكن واشنطن قررت سحب حاملة الطائرات «تيودور روزفلت» من مياه الخليج، في توقيت بالغ الدقة، تشهد فيه المنطقة تصاعدًا في مقدار التهديدات، تحت وطأة أعمال حربية روسية في سوريا، توشك أن تشمل العراق، وفي أعقاب اتفاق نووي مع طهران مثير للجدل والقلق، خلَّف شكوكًا لدى دول الخليج العربية لم تُبدِّدها جهود دبلوماسية أمريكية شارك فيها الرئيس الأمريكي أوباما، ووزير خارجيته جون كيري، ووزير دفاعه اشتون كارتر. البنتاجون قال إن سحب حاملة الطائرات الأمريكية من مياه الخليج يجري لأسباب «فنية»، مشيرًا إلى أن فترة بقاء الحاملة في منطقة العمليات قد جاوزت الستة أشهر التي يتعين بعدها خضوع الحاملة العملاقة لأعمال صيانة قد تستمر بضعة أشهر، تقول السوابق «التقنية» أنها بين عشرة أشهر وثلاثة وعشرين شهرًا. إلى هنا والأمر يبدو طبيعيًّا، فقد اعتادت البحرية الأمريكية على ذلك، لكنها كانت تقوم بإحلال حاملة محل أخرى في نفس المنطقة دون أن تترك فراغ قوة، في منطقة تحدق بها الأخطار، أمّا هذه المرة فلن تكون هناك حاملة طائرات بديلة تحل محل «تيودور روزفلت» في مياه الخليج. والسبب طبقًا لمصادر البحرية الأمريكية، هو أن إجمالي أسطول حاملات الطائرات الأمريكية هو عشر حاملات، بعضها يوشك الآن على التقاعد بعد خدمة جاوزت الخمسين عامًا، وينتشر بعضها الآخر في مناطق الاهتمام الأمريكي الأعلى، والذي تتعالى حدّته في الشرق الأقصى، حيث تتصاعد المخاوف من طموحات الصين، أيضًا فإن حاملة طائرات أخرى «دوايت آيزنهاور» تخصع الآن هي الأخرى لأعمال صيانة قد يطول مداها. أعذار البنتاجون قد تكون طبيعية ومفهومة في أي وقت، إلاّ الوقت الراهن، بعد اتفاق نووي أمريكي مع طهران فتح شهيتها لاستفزاز دول الإقليم، والتحرّش بها، والتدخل في شؤونها، وبعد انفلات القوة الروسية من عقال التحفّظ، وخروجها العنيف إلى سوريا، ثم قيامها لأوّل مرة بإطلاق صواريخ كروز العابرة من أربع قطع بحرية روسية تتمركز في بحر قزوين، وإصابة أهدافها في سوريا، بينما تكرر انتهاك المقاتلات الروسية للأجواء التركية فوق هاتاي التي تضم أيضًا لواء اسكندرون السوري، الذي ضمّته تركيا عام 1939، ورفضت دمشق الإقرار بسيادتها عليه. حالة الانسحاب «التقني» الأمريكي من مياه الخليج، كان يمكن تفهم أسبابه التقنية، لولا حالة الالتباس السياسي والإستراتيجي الناجمة عن أداء إدارة أوباما خلال فترة رئاسته الثانية والأخيرة، والذي يصفه مراقبون أغلبهم أمريكيون، بأنه أداء «كارثي» و»بائس». فالحضور المباغت، والأداء الجريء للقوة الروسية في سوريا، لم يكن يتحقق على هذا النحو، وبتلك السرعة والدقة، لولا التردد، والعجز، وحالة الانسحاب التي تعيشها إدارة أمريكية، ورثت عن سابقتها «إدارة بوش الابن» تركة ثقيلة من الديون، وورطة عسكرية ثقيلة الوطأة في العراق، وأفغانستان. حالة فراغ القوة في مياه الخليج، والتي قد تنجم عن سحب حاملة الطائرات الأمريكية «تيودور روزفلت»، ربما تستثمرها واشنطن، لتسويق المخاطر التي تفتح بدورها أبواب تسويق السلاح، والحصول على تسهيلات أرضية، وجوية، مثل استخدام قواعد جويّة بدول المنطقة، أو عبور أجوائها ضمن عمليات حربية، كانت تلك الدول ترفض السماح بها، وتتجنّب التورط فيها. كما حدث مع تركيا مثلاً، التي سمحت لواشنطن، مضّطرة وبعد طول ممانعة، باستخدام قاعدة انسريلك الجوية لضرب داعش. لكن هذا التغيّب الأمريكي المبرمج، يمكن أن يغري قوى أخرى مثل إيران وروسيا على خوض مغامرات ما كان ممكنًا التفكير فيها، لولا غياب أمريكا، ما يحمل بدوره على التساؤل: هل أمريكا في الخليج «غائبة»، أم «متغيِّبة»، أم «مغيَّبة»؟ مهارات اللغة لا تكفي وحدها للإجابة عن هذا السؤال. moneammostafa@gmail.com
مشاركة :