وهـــج الـكـتــابـة: أنين الصواري والبشارة.. خمسون عاما

  • 6/26/2021
  • 01:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في‭ ‬ذاك‭ ‬الزمن‭ ‬الدافئ،‭ ‬وهو‭ ‬يستحمُ‭ ‬بحنينٍ‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬القلب‭. ‬زمنٌ‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬نكهة‭ ‬الحب‭ ‬وصوت‭ ‬التمرد‭ ‬وإيقاع‭ ‬الرؤى‭ ‬والأخوّة‭ ‬النقية‭. ‬زمنٌ‭ ‬مازال‭ ‬يقبع‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭.. ‬نائمًا‭ ‬لكنه‭ ‬لن‭ ‬يستيقظ‭ ‬أبدًا‭ ‬ولن‭ ‬يعود‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬الحلم‭. ‬شبابًا‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الزهور‭.. ‬ربما‭ ‬حالمين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اللازم‭.. ‬ربما‭ ‬أفكارنا‭ ‬كانت‭ ‬مجنونة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اللازم‭. ‬طائشين‭ ‬أحيانًا‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يجمعنا‭ ‬هو‭ ‬دفء‭ ‬العلاقة‭ ‬الإنسانية‭.. ‬علاقة‭ ‬مغموسة‭ ‬بحب‭ ‬الوطن‭ ‬على‭ ‬طريقتنا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬الخوالي‭. ‬علاقات‭ ‬لم‭ ‬تتأثر‭ ‬بعد‭ ‬بالمصالح‭ ‬المادية‭ ‬ونياشين‭ ‬الشهرة،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الستينيات،‭ ‬زمن‭ ‬الحلم‭ ‬بصوت‭ ‬مرتفع‭ ‬وبصوت‭ ‬سريّ‭. ‬عشّاق‭ ‬ثقافة‭ ‬كنا‭.. ‬ننسج‭ ‬الحروف‭ ‬والكلمات‭ ‬المتواضعة‭ ‬بخجل‭ ‬وأحيانًا‭ ‬بجرأة‭ ‬مفرطة،‭ ‬ولكنها‭ ‬في‭ ‬العموم‭ ‬كانت‭ ‬تخرج‭ ‬ساخنة،‭ ‬لذيذة‭ ‬الوقع‭ ‬في‭ ‬القلب‭. ‬كنا‭ ‬أصدقاء‭ ‬حلم‭ ‬ورفاق‭ ‬حريّة‭. ‬كان‭ ‬بيننا‭ ‬شعراء‭ ‬وقصاصون‭ ‬وأدباء‭ ‬يطمحون‭ ‬للشمس‭ ‬والنشر‭ ‬والانتشار‭. ‬معظمنا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المبتدئين‭ ‬وبعضنا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قطع‭ ‬شوطًا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬والإبداع‭ ‬مثل‭ ‬الشاعرين‭ ‬علي‭ ‬عبدالله‭ ‬خليفة‭ ‬والشاعر‭ ‬قاسم‭ ‬حداد‭ ‬وكلاهما‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬المحرق‭ ‬الحبيبة،‭ ‬وهما‭ ‬كانا‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬حينذاك‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭.‬ فجأةً‭ ‬وبعد‭ ‬انتظار‭ ‬وشوق‭ ‬شق‭ ‬الصمت‭ ‬‮«‬أنين‭ ‬الصواري‮»‬،‭ ‬الديوان‭ ‬الأول‭ ‬للشاعر‭ ‬الصديق‭ ‬علي‭ ‬عبدالله‭ ‬خليفة‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬يوليو‭ ‬1969‭. ‬أذكر‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬صباح‭ ‬يوم‭ ‬جمعة‭ ‬وكنا‭ ‬في‭ ‬المحرق‭ ‬نتأهب‭ ‬للخروج‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬المزارع‭ ‬في‭ ‬سيارات‭ ‬خاصة،‭ ‬كان‭ ‬البعض‭ ‬منا،‭ ‬غالبًا‭ ‬الأكبر‭ ‬سنًا،‭ ‬يملكون‭ ‬سيارات‭ ‬والأغلبية‭ ‬كانوا‭ ‬صعاليك‭ ‬مثلي،‭ ‬كان‭ ‬عددنا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬أصدقاء‭ ‬أنقياء‭ ‬وحالمين،‭ ‬حينها‭ ‬وصل‭ ‬علي‭ ‬عبدالله‭ ‬خليفة‭ ‬وفتح‭ ‬صندوق‭ ‬سيارته‭ ‬وبدأ‭ ‬يوزّع‭ ‬علينا‭ ‬ديوانه‭ ‬البرتقالي‭ ‬اللون‭ ‬المطعّم‭ ‬بلون‭ ‬أزرق‭ ‬سماوي‭ ‬فاتح،‭ ‬وكنا‭ ‬فرحين‭ ‬به‭ ‬نعانقه‭ ‬بشغف‭ ‬الصغار‭ ‬بالبَرَد‭ ‬وهو‭ ‬يتساقطُ‭ ‬بين‭ ‬أكفهم‭ ‬الممدودة‭ ‬نشوةً‭. ‬ها‭ ‬قد‭ ‬فعلها‭ ‬علي‭ ‬خليفة‭ ‬بشجاعة‭ ‬الفرسان‭. ‬مازلتُ‭ ‬أحفظ‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬الغلاف‭ ‬الخلفي‭ ‬للديوان،‭ ‬مقطعٌ‭ ‬لم‭ ‬يغادرني‭ ‬طوال‭ ‬حياتي‭:‬ أنا‭ ‬حرفي‭ ‬يُعذبني، ويسحقني ويُلقى‭ ‬بالضنى‭ ‬روحي على‭ ‬كفي أخاطبكم‭ ‬أحبائي وفي‭ ‬حلقي‭ ‬مياه‭ ‬البحرِ والمسمار‭ ‬في‭ ‬جوفي في‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬قصائد‭ ‬كُتبت‭ ‬بحرارة‭ ‬الوجدان‭ ‬ودفق‭ ‬الروح،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إضافة‭ ‬مساحيق،‭ ‬قصائد‭ ‬تجسد‭ ‬أنين‭ ‬الصواري‭ ‬والجدران‭ ‬والشوارع‭. ‬قصائد‭ ‬أثّرت‭ ‬على‭ ‬تجربتي‭ ‬الشعرية‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الجرح‭ ‬الكبير‮»‬،‭ ‬‮«‬على‭ ‬أبواب‭ ‬الرحلة‭ ‬الأولى‮»‬،‭ ‬‮«‬أنين‭ ‬الصواري‮»‬،‭ ‬‮«‬آثار‭ ‬جرح‭ ‬قديم‮»‬،‭ ‬‮«‬على‭ ‬رصيف‭ ‬المحطة‮»‬‭ ‬وغيرها،‭ ‬ومازال‭ ‬بعضها‭ ‬عالقة‭ ‬بذاكرتي‭ ‬تذكرني‭ ‬بذاك‭ ‬الزمن‭ ‬الجميل‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬يعود‭.‬ بعد‭ ‬شهور‭ ‬قليلة‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬أبريل‭ ‬1970‭ ‬أطلق‭ ‬الصديق‭ ‬القديم‭ ‬الشاعر‭ ‬قاسم‭ ‬حداد‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬البشارة‮»‬،‭ ‬وبحسب‭ ‬ما‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التسمية‭ ‬جاءت‭ ‬احتفالًا‭ ‬بإطلاق‭ ‬سراح‭ ‬معتقلي‭ ‬انتفاضة‭ ‬1965‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الاستعمار‭ ‬البريطاني‭. ‬فحسب‭ ‬العادات‭ ‬الشعبية‭ ‬عندما‭ ‬يعود‭ ‬عزيزٌ‭ ‬من‭ ‬سفرٍ‭ ‬طويل‭ ‬غالبًا‭ ‬أو‭ ‬نجاة‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬تُعلّق‭ ‬النساء‭ ‬أحلى‭ ‬ثيابهن‭ ‬المزركشة‭ ‬على‭ ‬أسطح‭ ‬المنازل‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬راية‭ ‬لإعلان‭ ‬الخبر‭ ‬السعيد‭ ‬أو‭ ‬البشرى‭ (‬بالعامية‭ ‬‮«‬البشارة‮»‬‭). ‬وكتب‭ ‬قاسم‭ ‬على‭ ‬الغلاف‭ ‬الخلفي‭ ‬لديوانه‭ ‬مقطعًا‭ ‬ظل‭ ‬معي‭ ‬سنوات‭ ‬طوال‭:‬‮ ‬ ألفْ الأمرُ‭ ‬يختلفْ فالأبجديةُ‭ ‬التي‭ ‬نكتبها‭ ‬جديدة فنحنُ‭ ‬لا‭ ‬نكتبُ‭ ‬فوق‭ ‬الماء لكننا‭ ‬نخطُ‭ ‬بالدماءِ‭ ‬في‭ ‬مقاطع‭ ‬القصيدة فالشاعرُ‭ ‬الشجاع‭ ‬يعترف ويغمسُ‭ ‬الريشة‭ ‬في‭ ‬الجراح ويصرعُ‭ ‬الرياح ويركبُ‭ ‬العذابَ‭ ‬عبر‭ ‬الرحلة‭ ‬البعيدة تأثرت‭ ‬تجربتي‭ ‬بقاسم‭ ‬حداد‭ ‬أيضًا‭ ‬فترة‭ ‬صداقتنا‭ ‬الوطيدة‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الزمن‭ ‬البعيد،‭ ‬وكان‭ ‬يشجعني‭ ‬كثيرًا‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬المختلفة‭ ‬ولكن‭ ‬اختلاف‭ ‬الظروف‭ ‬والتجارب‭ ‬جعلتني‭ ‬متخلفًا‭ ‬عن‭ ‬ركب‭ ‬الإبداع‭ ‬فترة‭ ‬ليست‭ ‬بالقصيرة‭.‬ علي‭ ‬خليفة‭ ‬وقاسم‭ ‬حداد،‭ ‬شاعران‭ ‬رائدان‭ ‬كتبا‭ ‬بدم‭ ‬القلب،‭ ‬لكن‭ ‬لغتهما‭ ‬كانت‭ ‬ومازالت‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬فحين‭ ‬حافظ‭ ‬علي‭ ‬خليفة‭ ‬على‭ ‬إيقاعه‭ ‬التفعيلي‭ ‬المحافظ‭ ‬نسبيًا‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬مشواره‭ ‬وبرع‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الشعبي‭ ‬وفي‭ ‬كتابة‭ ‬الموّال،‭ ‬توجّه‭ ‬قاسم‭ ‬نحو‭ ‬التجريب‭ ‬بعد‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬متأثرًا‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬بإيقاع‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعشقه‭ ‬قاسم‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬تجربته،‭ ‬ليطوّر‭ ‬لغته‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬الى‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬وأُتهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬البعض‭ ‬بالغموض‭ ‬والتوجه‭ ‬الأدونيسي‭ ‬والسوريالي‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬ولكنه‭ ‬بلغ‭ ‬مرحلة‭ ‬أصبحت‭ ‬لديه‭ ‬لغته‭ ‬الخاصة‭ ‬العميقة‭ ‬المتفردة‭ ‬ليتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬شعراء‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭.‬ هذا‭ ‬مجرد‭ ‬ضوء‭ ‬سريع‭ ‬على‭ ‬بداية‭ ‬تجربة‭ ‬شاعرين‭ ‬كبيرين‭ ‬من‭ ‬جزيرة‭ ‬الحلم‭ ‬والنخلة‭ ‬والشمس،‭ ‬ساهما‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬والثقافي‭ ‬ومازالا‭ ‬ممسكين‭ ‬بجمر‭ ‬الحرف‭!‬ Alqaed2@gmail‭.‬com

مشاركة :