في ذاك الزمن الدافئ، وهو يستحمُ بحنينٍ في ذاكرة القلب. زمنٌ كان له نكهة الحب وصوت التمرد وإيقاع الرؤى والأخوّة النقية. زمنٌ مازال يقبع في مكان ما.. نائمًا لكنه لن يستيقظ أبدًا ولن يعود إلّا في الحلم. شبابًا كنا في عمر الزهور.. ربما حالمين أكثر من اللازم.. ربما أفكارنا كانت مجنونة أكثر من اللازم. طائشين أحيانًا ولكن ما كان يجمعنا هو دفء العلاقة الإنسانية.. علاقة مغموسة بحب الوطن على طريقتنا في تلك الأيام الخوالي. علاقات لم تتأثر بعد بالمصالح المادية ونياشين الشهرة، كان ذلك في نهاية الستينيات، زمن الحلم بصوت مرتفع وبصوت سريّ. عشّاق ثقافة كنا.. ننسج الحروف والكلمات المتواضعة بخجل وأحيانًا بجرأة مفرطة، ولكنها في العموم كانت تخرج ساخنة، لذيذة الوقع في القلب. كنا أصدقاء حلم ورفاق حريّة. كان بيننا شعراء وقصاصون وأدباء يطمحون للشمس والنشر والانتشار. معظمنا كان من المبتدئين وبعضنا كان قد قطع شوطًا أكثر من غيره في الكتابة والإبداع مثل الشاعرين علي عبدالله خليفة والشاعر قاسم حداد وكلاهما من مدينة المحرق الحبيبة، وهما كانا الأبرز في البحرين حينذاك في مجال الشعر الحر. فجأةً وبعد انتظار وشوق شق الصمت «أنين الصواري»، الديوان الأول للشاعر الصديق علي عبدالله خليفة. كان ذلك في يوليو 1969. أذكر أنه كان صباح يوم جمعة وكنا في المحرق نتأهب للخروج في رحلة إلى إحدى المزارع في سيارات خاصة، كان البعض منا، غالبًا الأكبر سنًا، يملكون سيارات والأغلبية كانوا صعاليك مثلي، كان عددنا كبيرًا، أصدقاء أنقياء وحالمين، حينها وصل علي عبدالله خليفة وفتح صندوق سيارته وبدأ يوزّع علينا ديوانه البرتقالي اللون المطعّم بلون أزرق سماوي فاتح، وكنا فرحين به نعانقه بشغف الصغار بالبَرَد وهو يتساقطُ بين أكفهم الممدودة نشوةً. ها قد فعلها علي خليفة بشجاعة الفرسان. مازلتُ أحفظ ما كتبه الشاعر على الغلاف الخلفي للديوان، مقطعٌ لم يغادرني طوال حياتي: أنا حرفي يُعذبني، ويسحقني ويُلقى بالضنى روحي على كفي أخاطبكم أحبائي وفي حلقي مياه البحرِ والمسمار في جوفي في هذا الديوان قصائد كُتبت بحرارة الوجدان ودفق الروح، من دون إضافة مساحيق، قصائد تجسد أنين الصواري والجدران والشوارع. قصائد أثّرت على تجربتي الشعرية مثل «الجرح الكبير»، «على أبواب الرحلة الأولى»، «أنين الصواري»، «آثار جرح قديم»، «على رصيف المحطة» وغيرها، ومازال بعضها عالقة بذاكرتي تذكرني بذاك الزمن الجميل الذي لن يعود. بعد شهور قليلة وبالتحديد في أبريل 1970 أطلق الصديق القديم الشاعر قاسم حداد ديوانه الأول «البشارة»، وبحسب ما أذكر أن هذه التسمية جاءت احتفالًا بإطلاق سراح معتقلي انتفاضة 1965 في عهد الاستعمار البريطاني. فحسب العادات الشعبية عندما يعود عزيزٌ من سفرٍ طويل غالبًا أو نجاة من خطر تُعلّق النساء أحلى ثيابهن المزركشة على أسطح المنازل على شكل راية لإعلان الخبر السعيد أو البشرى (بالعامية «البشارة»). وكتب قاسم على الغلاف الخلفي لديوانه مقطعًا ظل معي سنوات طوال: ألفْ الأمرُ يختلفْ فالأبجديةُ التي نكتبها جديدة فنحنُ لا نكتبُ فوق الماء لكننا نخطُ بالدماءِ في مقاطع القصيدة فالشاعرُ الشجاع يعترف ويغمسُ الريشة في الجراح ويصرعُ الرياح ويركبُ العذابَ عبر الرحلة البعيدة تأثرت تجربتي بقاسم حداد أيضًا فترة صداقتنا الوطيدة في ذاك الزمن البعيد، وكان يشجعني كثيرًا على الكتابة المختلفة ولكن اختلاف الظروف والتجارب جعلتني متخلفًا عن ركب الإبداع فترة ليست بالقصيرة. علي خليفة وقاسم حداد، شاعران رائدان كتبا بدم القلب، لكن لغتهما كانت ومازالت مختلفة عن الآخر منذ البداية، فحين حافظ علي خليفة على إيقاعه التفعيلي المحافظ نسبيًا في معظم مشواره وبرع أيضًا في الشعر الشعبي وفي كتابة الموّال، توجّه قاسم نحو التجريب بعد ديوانه الأول، الذي كان متأثرًا فيه إلى حد بعيد بإيقاع نزار قباني الذي كان يعشقه قاسم في بداية تجربته، ليطوّر لغته من ديوان إلى آخر حتى وصل الى قصيدة النثر، وأُتهم من قبل البعض بالغموض والتوجه الأدونيسي والسوريالي في الكتابة، ولكنه بلغ مرحلة أصبحت لديه لغته الخاصة العميقة المتفردة ليتحوّل إلى أحد أبرز شعراء ما بعد الحداثة في الوطن العربي. هذا مجرد ضوء سريع على بداية تجربة شاعرين كبيرين من جزيرة الحلم والنخلة والشمس، ساهما في إثراء المشهد الشعري والثقافي ومازالا ممسكين بجمر الحرف! Alqaed2@gmail.com
مشاركة :