عندما يكتب الكاتب فإنه يعمل على تفريغ شحنة تعتمل في في ذاته تأتت من واقعه المعاش لكونه قد منح تلقائياً موهبة التمكن من توصيل أحاسيسه إلى المتلقي بواسطة الكتابة، وهو في ذلك، وخاصة في مجالات الكتابات الإبداعية التي غالباً ما تتمثل في الشعر، والقصة، والرواية، وقد تدخل في السيرة الذاتية، أو المذكرات، والخواطر، فهو لم يقدم على الكتابة في هذه المجالات وفق منهج لكون الهاجس الداخلي هو الذي كان الدافع بحكم المعايشة والتعمق بالمواجهة التي تجابهه بما يدفعه للتفكير في مشاهداته الملاصقة له إضافة إلى ما يحلم به كإنسان له أحاسيسه وتطلعاته، وشهوة البوح التي تقوده وتوجهه إلى الإصلاح القادر عليه والذي يرى أنه هو الطريق الأمثل للسلوك في منعطفات الحياة المتعرجة التي طالما تمثلت في الواقع أو الخيال، وهي تحدث لمن كان همه أن يساهم في توسيع مساحات أخر من ميدان الحياة بحكم تجاربه التي مربها منذ يفاعته وحتى ما استجد في تكوينه الثقافي والعمري. فهناك أشياء تتراكم في الذهن لا يتسع لها إلا الكتابة لكي تخفف من الأحمال التي ينوء بحملها العقل، فتدفع وتندفع دون سابق إنذار إلى الكاتب ليبوح بتلقائية تبرهن على أنها تسيره نحو إخراجها في عملية تكامل لما قد كسبه من جراء القراءات التي قادت إلى بعضها بحكم ماتكوّن من حب لها، حيث تمثلت كغذاء روحي للموهبة النابتة والمستمرة في النمو بنمو العمر، فهو يشبع شهوتها بما تتطلبه من المتابعة مما يؤدي بها إلى دفعه نحو المشاركة الكتابية بحب وشهوة يتذوق طعمها وقت الانتهاء منها ومثولها أمامه، وتكتمل اللذة عندما تصل إليه ردات الفعل المتلقية المتأتية في التعبيرات التي يسمعها، أو يقرأ بعضها وهي تحمل في مضامينها القبول، وذلك ما يدفعه للمزيد من الممارسة هذه التي أوصلت مايجيش في نفسه من هواجس، وأفكار، وتطلعات، وأحلام تحمل في رؤيتها التطور الذاتي كما التطور العام، حسب اتساع الأفق المعرفي ومدى التجربة التي مر بها. الكاتب هو من المنظومة التي يفترض فيها ويتوجب عليها أن تبدع، والإبداع مجالاته عديدة لهذا تنوعت الكتابات عند أصحاب القلم الذين تكونت لديهم القدرة على التوصيل بواسطة الكلمات في أي نوع كتابي، فكل كاتب له وسيلته التي يرى هو أنها الأقرب إلى نفسه وأنها هي القادرة على حمل ما يريد من أفكار وعرضها بوضوح رسماً وقولاً، لأنها أتت من تجربة التعايش البشري فالتقطت صوراً عديدة وخزنتها في مستودعها الخاص الذي لا يملك مفتاحه إلى صاحبه حفاظاً على الخاصية التي تمثله هو دون سواه، فالخاصية سمة كل مبدع ناجح ومؤثِّر لكونها لا تأتي صدفة، وحتى لو كانت صدفة فلا بد من صقْلٍ وحَكٍ لفرز الجوْهَرة عن الصَّدَفة (كما في رأي ميخائيل نعيمة)، فجمالية الكتابة ليست في موضوعها فقط. بل إنها تكمن بجلاء في طريقة العرض الذي يشُد إليه المتلقي، وفيما يشُد كانت هناك سوابق له تكوَّنت من محبة الجمال التي لا تكتمل مهما بلغت منه لأنها في نمو استمراري مع الحياة ومكوناتها، والجمال مستمر في السّمو والأولوية لمن يدرك هذا المعنى فيستمر لأن هناك من سيستمر، وبعده من سيستمر في المواكبة مادامت الحياة والناس. المبدع يريد أن يحقق أشياء، والقارىء يبحث عما يلائمه، وكثيراً ما كانت المفارقة بين كاتب مبدع وقارئ مبدع، وقد يتفوق الثاني على الأول ليس لأنه أغنى تجربة أو أعمق ثقافة، ولكن لأن المدار كان مغلقاً أمام الثاني الذي لم يتحصل على المفتاح الذي بيد الأول، فيكون النكوص الذي يتحمل وزره الأول، فقد كان الحدث بسبب تعسّر أو تعثّر عملية التوصيل المتمثلة -كما ذكر أنفاً- في طريقة الكتابة وسهولة واستقامة الطريق الخالي من التعرجات، فالكلمة والعبارة الموحية بسهولة هي المطلوبة، ولكن ليس لكل المتلقين نظراً للتباينات بينهم، فهناك من لم يفتح كتاباً أو يقرأ في هذا المجال فيصعب عليه الدّخول إلى عوالم الكاتب مما يؤدي به إلى التبرّم ووصف الكاتب بأي وصف غير لائق، وهناك من هو قائم في تقويمه على مرجعية معرفية عريضة حوت الكثير والمماثل لما أمامه كونت صورة في ذهنه لما أمامه مقارناً إياها بغيرها، وربما مايفوقها فيجنح إلى ما يرى أنه الأوفق والأوفى، وقد قيل: "من ألف فقد استهدف" وفي هذه الحالة يتوجب على من منح شهوة الكتابة موهبة واكتساباً أو يدلي بدلوه، وأن يقدم ما لديه مراعياً الجودة ونقد الذات قبل عرض نتاجه، فلن يعدم من يتقبله، ولن يعدم من يرفضه، لكون الناس أجناس، والأفكار متنوعة، والأذواق مختلفة، ولكن الأهم أن يكون من يقدِّم نفسه مستنداً على الصِّدق مع النَّفس والفن، مع امتلاك الأدوات التي تؤهل للدخول في هذا المجال الرحب والواسع، وشهوة الكتابة لها مستوياتها المستمدة مقاساتها من مبدعيها، وللزَّمن حكمه المنصف فيها.
مشاركة :