علينا أن نفهم بأن ماتم تدميره هو سيادة روح الإنسان التي كرمها الله على سائر المخلوقات وليس المنشآت والممتلكات فحسب، فعندما بلغت العاطفة أقصى نضجها تم انتهاك كرامتها وتهجيرها وإلباسها معطف الفقر، ثم عادت الظروف السابقة التي مكنت المسيحية من الهيمنة على العالم القديم وتسللت تدريجياً إلى حاضرنا المليء بالعيوب والفساد. والمسألة هنا جوهرية ولها أهمية كبيرة فقد انتشرت الصراعات الطائفية بعد تراجع سبل النهضة وارتكبت أخطاء فاقت تصورات الإنسان فكان استقصاء شامل استنزف طاقات الشعوب وحُرمت من طموحها لوجود أساليب صارمة من أنظمتها. وأن ما نروم إليه معرفة ما يجهله غيرنا لتوضيح الطرق التي مرت بها الإنسانية، من صراع مرير يبحث عن الأسباب التي دفعت إليه والخراب الذي خلقه، فنحن في أحايين كثيرة بحاجة إلى قراءة مزدوجة تفصّل لنا إجابات لأسئلة مثيرة لماذا قدم بشار شعبه قرابين للسلطة؟ فلم يعد بوسعنا سوى إحصاء حجم الكارثة وبغض الصراع والضجر من العروض التي يقدمها مسرح الأحداث من عقائد متطرفة وتضخم الرغبات التي تخدم الأنظمة لا الجماهير المحتشدة التي تطالب بحقوقها الوطنية، في سورية والعراق وليبيا أو غيرها من الدول التي تعاني من الفوضى والشغب ومواجهة الأخطار. ونظراً لكثرة مايحتوي عليه الرأي العام من أنواع مختلفة من الزيف والحقيقة لابد من حسم النزاع وكشف السبب والنتيجة والمضمون الذي يقع بينهما ومن ناحية أخرى نجد ما ذكره القائد الإنجليزي والكاتب الجنرال «جون باجوت» على أن تاريخ مشكلة الشرق الأوسط إنما يعود إلى القرن السابع للميلاد، أي أن مشكلة الهيمنة الغربية مع الشرق الإسلامي قد بدأت بظهور الإسلام وليس في مضمونها اختلاف كبير وظلت السببية في اتجاه واحد منذ ذلك العهد إلى تاريخنا المعاصر. هذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الباعث والمحرض هو في القوة، فمن منا يزعم أن العالم لا يعتمد في جميع مواقفه على هذه القوة؟ فكل ما يدور على الساحة ليس من باب الصدفة وإنما نطلاق من عدة علامات كان الهدف منها محكوم بسيرورة الشق السياسي والتحالفات، ويمكن أن نستنتج من عمق هذه العلاقات وتفعيلها هو مؤشر الفشل في احتواء الأزمات وتفويض الدول الكبرى بسبب تصدع السلطة السياسية وصرف الأنظار عن مختلف فئات الشعب المضطهدة، ليظل مشروع الهيمنة حاضراً والتميز الحضاري والاستقلال الوطني غائباً. فيما أشار المؤرخ الفرنسي «بروديل» في كتابه الشهير «المتوسط والعالم»، إلى أنماط من الحضارات الحية أو الكامنة في حوض المتوسط في فصل بعنوان لافت «الحضارات فردوس البشر وجحيمهم» ويقول بروديل: «يحتوي المتوسط على ثلاث حضارات هائلة وثلاث مجموعات ثقافية وثلاثة أنماط أساسية في الاعتقاد والتفكير والعيش والأخلاق والمأكل، متجسدة في ثلاث شخصيات لا نهاية لأقدارها، وكانت دائماً قائمة من قرون وقرون، الحضارة الأولى هي الحضارة الغربية، وعلى الأصح اللاتينية أو الرومانية، الحضارة الثانية هي الحضارة العربية الإسلامية، والغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس، إنهما عدوان متكاملان). ونختم بقوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من وليّ ولا نصير).
مشاركة :