في هذه السلسلة نحاول التعرف على جملة من رموز الشعر في السعودية، ومدى تثاقفهم وتعالقهم مع المنجز المعرفي والشعري العربي من خلال شهاداتهم وبعض إنجازاتهم الشعرية. ولعل أول هؤلاء الشعراء هو الشاعر أحمد الصالح (مسافر) الذي بدأت تعالقاته ومثاقفاته الشعرية والأدبية منذ نعومة أظفاره، فقد كان والده متذوقاً للشعر العربي وقارئاً له وخاصة الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي، وكثيراً ما سمع والده وهو يقرأ شعر حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، والخنساء، وصولاً إلى شعراء العهدين الأموي والعباسي كجرير والفرزدق والأخطل وأبو تمام والبحتري والمتنبي وشوقي. ومع هذه القراءات تأتي التعليقات والتأويلات والمرئيات النقدية لوالد متذوق وقارئ للشعر ومستوعب له ولتداعياته ومآلاته الأدبية. ثم تنامت هذه المثاقفات الشعرية والأدبية عبر الكتب الأدبية التي أهداها إياه الوالد.. أو قرأها اختلاساً في مكتبة الوالد – أيضاً - فقد أهداه الوالد كتاب جواهر الأدب لأحمد الهاشمي، وديوان عنترة وديوان أبو القاسم الشابي وهو في الخامسة من عمره ولأنه في مرحلة مبكرة وتصعب على مداركه فهم المعاني والقصديات الشعرية فكان على الوالد أن يقوم بدور المعلم والشارح والمفسر لما صعب فهمه وقصر عنه إدراكه. وفيما بعد - في المرحلة المتوسطة - أهداه الوالد بعض الدواوين الشعرية لإيليا أبو ماضي ولامية العرب والمعلقات العشر ودواوين أبي نواس وبشار بن برد وكتاب ألف ليلة وليلة. ومع نموه المعارفي وتمرحله الدراسي في المرحلة الثانوية وانتقاله إلى مدينة الرياض زاد النمو المعرفي والتثاقف الشعري وبدأ الاعتماد على نفسه في اختياراته القرائية والأدبية وتكوين مكتبته الشعرية والأدبية شراءً وإهداءً وحضوراً وزيارات للمكتبات المحلية والخليجية وخاصة الكويت التي سافر إليها واشترى منها مجموعة من الدواوين الشعرية لشعراء محدثين ومعاصرين ومجددين لشعراء التفعيلة والقصيدة الحرة من لبنان وسوريا كالأخطل ونزار قباني وعمر أبي ريشة وبدوي الجبل، وشعراء المهجر كإيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران وأحمد زكي وشعراء العراق كالبياتي والجواهري والسياب ونازك الملائكة وشعراء مصر صالح جودت وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل وأحمد رامي وإبراهيم ناجي وغيرهم وغيرهم في اليمن وتونس والخليج العربي. وكل هذه القراءات والمثاقفات الحداثوية كانت له زاداً شعرياً ورافداً ثقافياً شجعته على التجارب الشعرية المتجددة والنشر في المجلات والصحف المحلية تحت اسم مستعار وهو (مسافر) حتى اطمئن إلى شاعريته ومعاصرته فبدأ ينشر باسمه الحقيقي أحمد الصالح!! ويخلص الشاعر أحمد الصالح (مسافر) في شهادته إلى التأكيد على أن هذه المثاقفات الأدبية والشعرية لها دورها في تكوينه الشعري وتشكلات المتن الإبداعي والقاموس المعجمي في مسيرته الإبداعية والشعرية عبر الأيقونات التفاعلية والتثقافية التالية: - مدرسة الوالد ومكتبته الشعر/أدبية وتثاقفاته الأولية. - مراحله التعليمية ومكتسباته المعرفية عبر تمدرسه الأولي والمتوسط والثانوي والجامعي. - القراءات الشعرية المنوعة تراثا ومعاصرة عبر الشعر الجاهلي فالإسلاموي فالمعاصر والحديث. - اللقاءات والحوارات والتجاذبات الشعرية مع الرموز الشعرية تراثا ومجايلة. وعن ذلك كله يقول: «هذا المعين العذب من الشعر شكل ذائقتي الشعرية» «في هذا البحر والكنز الثمين أجد الأنس واللذة بقراءة الشعر ومتابعته» «للتراث - وخاصة الإسلامي - أثر واضح على مساري الشعري فتأثرت بالتاريخ الإسلامي والعربي واستلهام التراث». ويثبت ذلك كله في مدونته الشعرية التي بلغت -حتى العام 1435هـ - أحد عشر ديوان مطبوعا ومنشورا و ثلاثة أخر في طريقها للنشر إن شاء الله(1). وفيما يلي وقفة نقدية مع أحد النصوص الشعرية التي نستلهم منها صورا ناضجة لمثاقفاته الشعرية وتأثراته التي شكلت مسيرته الإبداعية وهي بعنوان: الخطبة الأخيرة على أسوار بابليون(2). تتكون هذه القصيدة من 6 مقاطع، كل مقطع يحمل عنوان (القول الأول وحتى القول السادس)!! ومن خلالها يتضح أن الجو العام للنص، يتعالق فيه التاريخ والماضي مع الواقع المعاصر أثناء كتابة النص الذي يبدو أنه في التسعينيات الهجرية لأن أغلب قصائد الديوان مؤرخة في 1392هـ -1399هـ وفي بدايات العام ١٤٠٠هـ. في هذه الفترة كانت مصر بقيادة أنور السادات في صراع مكثف مع إسرائيل في عهد جولدا مائير ١٩٦٩-١٩٧٤م ومناحيم بيجن ١٩٧٧- 1983م. في هذه الفترة كانت حرب أكتوبر التي انتصر فيها المصريون، وكان فيها صلح السلام الذي زار فيه السادات الكنيست الإسرائيلي وألقى فيه خطاب السلام والصلح المعروف. من وحي هذه العلاقة كتب النص، وفيه تتجلى إسقاطات المسألة السياسية المعاصرة – آنذاك - على القصيدة بكاملها بدءاً من العنوان وفيه (أسوار بابليون) إشارة ودلالة على مصر وحصن بابليون الذي فتحه عمرو بن العاص، رضي الله عنه، عام ٢٠هـ ودخلت مصر إلى ديار الإسلام. ثم نجد الإشارات القرآنية الدالة على اليهودية والصهيونية والمسيحية (تأتيكم مائدة - في شيع حذاء ملعون/ تأتيكم «حيتان السبت»). يستحييكم بيقن/ مناحيم بيجن رئيس وزراء اسرائيل ١٩٧٧-١٩٨٣م. أو يستحييكم فرعون - إشارة ودلالة على القيادة المصرية آنذاك - وكان أنور السادات، رحمه الله. ثم نجد دلالات وإحالات إلى المال والذهب: «فاروق» تسلل في دمكم مست كفاه.. ضمائركم» ثم نجد دلالات تشير إلى مصر وتاريخها الروماني وحصن بابليون القديم الذي فتحه عمرو بن العاص: ميدان التحرير جامع عمرو سنابل خيل الروم هولاكو منتزهات النيل ثم نجد (مائير) وهي جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل ١٩٦٩-١٩٧٤م التي حصل في عهدها أول هزيمة للجيش الإسرائيلي في معركة أكتوبر 1973م رمضان والعبور لخط بارليف في العاشر من رمضان ١٣٩٣هـ. »والملك الضليل» إشارة إلى الشاعر العربي امرؤ القيس وقصته المعروفة لأخذ ثأر والده المقتول وقولته المشهورة «اليوم خمر وغدا أمر». «وغلمان الآبق كافور» فيه دلالة على كافور الإخشيدي وموقفه مع المتنبي الشاعر «يأتي عمرو/ ينهي باسم الله/حصار الروم /بابليون» ثم نجد خالد بن الوليد القائد المسلم ودوره في حروب الردة وعمرو بن العاص ودوره في فتح مصر وحصن بابليون «يأتي خالد /ينهي الردة/ ينهي تأليه الأوثان. يأتي عمرو/ يصلي الناس صلاة الفتح/ ويتلو التوبة/ يتلو الفتح/ يقيم صلاة الحاضر/ للشهداء (لسيناء ودير ياسين) ثم يختم النص القصيدة بالقول السادس «يخرج من أصلاب أمية صقر قريش يخرج نبت الأرض خيولا. تحمل هم القدس وحزن الناس وتحمل أغلى جيش يأتي نصر الله قريباً يأتي الفتح يأتي مثل طلوع الصبح» وهنا نلحظ الدلالات التفاؤلية والمستقبلية لما يتوقعه الشاعر للأمة العربية والإسلامية مستحضراً التاريخ/ فمن بني أمية/ القبيلة القرشية العربية يخرج عبدالرحمن الداخل/ صقر قريش، وفيها استعادة لدولة بني أمية التي سقطت في الشام ونشأت مثيلتها في الأندلس على يد صقر قريش عبدالرحمن الداخل، وهو المؤمل مستقبلاً لحل القضية الفلسطينية واستعادة القدس وفتح فلسطين .. فتحا مبينا مثل طلوع الصبح !! هنا نجد المثاقفة التاريخية والسياسية والشعرية/ الأدبية والمعاصرة والربط الشعري ما بين الماضي/ التاريخ والواقع المعاصر، في لغة شعرية دالة وإيحاءات رامزة لا تخفى على القارئ الواعي. الهوامش -------- (1) انظر: خالد بن أحمد اليوسف: التجربة الشعرية في المملكة العربية السعودية/ شهادات ونصوص. كرسي الأدب السعودي، جامعة الملك سعود، ط١، ١٤٣٥هـ: أنا والشعر: تجربة أحمد الصالح (مسافر) الشعرية، ص ص ٤٧-٥٠. (2) أحمد صالح الصالح (مسافر): ديوان انتفضي أيتها المليحة، دار العلوم للطباعة والنشر، ط١، ١٤٠٣هـ/١٩٨٣م، ص ص ٥١-٥٦.
مشاركة :