في هذه السلسلة نحاول التعرف على جملة من رموز الشعر في السعودية، ومدى تثاقفهم وتعالقهم مع المنجز المعرفي والشعري العربي من خلال شهاداتهم وبعض إنجازاتهم الشعرية. وتبدأ مثاقفات الشاعر أحمد عايل فقيهي. - حسب الشهادة التي قدم بها لديوانه سماء بعيدة.. وضوء شحيح منذ بدأت معه حكاية الشعر والانتماء إلى عوالمه الفكرية والذهنية عبر الثقافة العميقة وفهم تجلياتها، وعبر فهم التاريخ والفلسفة والأساطير وعلم الأنثربولوجيا. ويعتبر الشاعر أحمد عايل فقيهي أن المؤثر الحقيقي في مسيرته الشعرية هو أبو العلاء المعري الذي «يمثل أعلى درجة من درجات الشعر، ويتكئ على رؤية فكرية ووجودية سواء في ديوانه (اللزوميات) أو ديوانه الآخر (سقط الزند)». وبالتأكيد فالشاعر هنا يؤكد حضور هذا الرمز الشعري وإنتاجه الأدبي في تثاقفاته وعلاقاته بالشعر في سني المثاقفة الأولية. وبضيف الشاعر أحمد عايل فقيهي، أن (المتنبي) قد أعلى من قيمة العقل فكان مصدراً من مصادر المثاقفة التأسيسية، وكذلك الشاعر/ علي أحمد سعيد/ أدونيس) ودواوينه: (أغاني مهيار الدمشقي/ والمسرح والمرايا/ وتاريخ يتمزق في جسد امرأة). إذ وجد فيها شاعرنا حضوراً للرؤية الفكرية، والاسترفاد العقلي للمعطيات الشعرية. وفي نفس السياق، يؤكد الشاعر (فقيهي) تثاقفه على شعريات (خليل حاوي) ودواوينه (الناي والريح) و(بيادر الجوع) وغيرها حيث اكتسب منها «العوالم الأسطورية» التي تضج بها هذه الدواوين وتشابك وتداخل اللحظة الوجودية بكل تدافعاتها وتجليلتها». وتتنامى المثاقفات عند (أحمد عايل فقيهي) عبر قراءته في شعر (صلاح عبدالصبور) الذي اشتغل على «اللغة المكثفة المعمقة» وظهر ذلك جلياً في قصائده ودواوينه «التي تنضح بالقلق الوجودي». ومن كل هذه المثاقفات وصل أحمد عايل فقيهي إلى قناعة أدبية نقدية راسخة حول مفهوم الشعر والشاعرية، يقول في شهادته: * الشعر.... يمثل تجربة ضخمة وكبيرة في المسيرة الإنسانية. * الشعر هو المعبر الحقيقي عن الإنسان بعيداً عن كتب التاريخ. * الشعر ليس مجرد لغة ومفردات وخيال فقط، إنه عالم يعج ويضج بالتحولات والاختراقات. * الشعر لا ينبغي أن يكون سطحياً، بل عميقاً ومعبراً عن قلق الإنسان ووجودية الإنسان. * الشعر سفر في الأمكنة، والأزمنة وبقدر ما يعبر عن الوجدان يجب أن يكون معبراً عن العقل. * الشعر هو البحث عن العقل الذي يرى ولا يرى، والذي يضيء السؤال الدائم والمستمر بحثاً عن إجابة. * الشعر هو الذي يحمل رؤية ويحمل مضموناً وخطاباً شعرياً عميقاً للحياة والوجود والكون والبشر. * الشعر حالة فكرية وذهنية ترتكز على ثقافة عميقة وفهم بالتاريخ والأساطير وعلم الإنثربولوجي ويحمل تمثلات العالم والأسئلة الكونية والوجودية الكبرى. * الشعر لا يرتبط بالشكل فقط ولكن بما يحمله من مضامين وإضافات إبداعية على صعيد الرؤيا واللغة والموضوع. * الشعر ليس هذياناً وعبثاً، ورص كلمات لا يربطها السياق. * الشعر هو المحرك للوجدان، هو الذي يحرض على الأسئلة، يرتهن إلى الوعي والتنوير. * الشعر هو الجمر، هو نار المعرفة، هو نار اللغة التي تضيء العتمة. * الشعر هو العلاقة بين الشيء واللاشيء، بين اللؤلؤة والصدفة، بين الأحجار والأحجار الكريمة. * الشعر صنو التجديد وعدم الارتجاع للتقليد هو التجديد لا التجديف، الإبداع وليس الابتداع. بهذه التعريفات الشاعرية عن الشعر، وبهذه المفاهيم التي كونها الشاعر (أحمد عايل فقيهي) عن الشعر والشاعرية يتضح لنا أن مثاقفاته الشعرية التي كونت تجربته وأمدتها بسياج من التعاطي المعرفي والنقدي تقوم على مرجعيات شعرية ثلاثية الأبعاد: البعد الأول: الشعرية التراثية/ التقليدية/ والعمودية من خلال رمزية أبي العلاء المعري. والبعد الثاني: الشعرية العروبوية/ والعقل/ فكرية من خلال رمزية المتنبي. والبعد الثالث: الشعرية المعاصرة والحداثية من خلال رمزية أدونيس وخليل حاوي وصلاح عبدالصبور. ومن كل هذا يتشكل (أحمد عايل فقيهي) رمزاً شاعرياً ، ويأتينا شاعراً مدججاً بالأسئلة الكبرى ومتوجاً بفرادة اللغة، وحداثة التصوير، ليسكبها فضاء مموسقاً إبداعياً في قصائده التي نشرت في دواونيه الأربعة حتى الآن ومنها نختار إحدى قصائده من ديوانه الأول صباح القرى وهي قصيدة بعنوان «حوار شخصي مع عروة بن الورد» لنجري عليها مشرط التحليل والنقد للوقوف على حداثة التجربة وأيقوناتها التجديدية. في هذه القصيدة/ النص، يختار شاعرنا أحمد عايل فقيهي العودة إلى التراث واختيار مطلع تراثي/ عمودي من جنس القصيدة العمودية/ التراثية، على البحور الخليلية، ليكون مدخلاً ومنطلقاً للنص/ القصيدة. وهذا المطلع لشخصية شعرية عروبوية وهي شخصية الشاعر عروة بن الورد، الذي يعد من الشعراء الصعاليك في مدونة الشعر العربي - وهي من قبيلة عبس، وقد تميز هذا الشاعر بصعلكته المعروفة تراثياً (يسرقون الأغنياء لإطعام الفقراء) وقد أسهم هذا الشاعر الصعلوك في جعل الصعلكة تياراً فكرياً ومذهباً اجتماعياً وأسلوباً شعرياً حتى أنه سمي/ أمير الشعراء الصعاليك، ويتميز شعره بالرؤى الفلسفية العميقةوهذا ما يشكل جزء من شخصية شاعرنا (أحمد عايل فقيهي) الشعرية الذي أشار في شهادته السابق إيرادها عن الشعر ودلالاته وآفاقه العقلية والفلسفية والوجدانية. القصيدة تنقسم إلى ثماني مقاطع بعد المدخل العمودي المقتبس تتراوح بين جنس التفعيلة والنثرية وفي المقطعين الأول والثاني تأكيد على حالة الشاعر النفسية حيث الوحدة والألم والضجر والسأم وظلال الصمت وشرنقة الحزن، في هذه الأجواء النفسية المتأزمة، يتفيأ الشاعر/ أحزانه لوحده/ وأمامه كسرة خبز «لون من أفكار مجنونة/ نزعت تواً من ذاكرتي» وهذه إحدى صور الصعلكة المعاصرة التي يمثلها الرمز عروة بن الورد، ويعيشها شاعرنا أحمد عايل فقيهي!!. في المقطع الثالث تصوير للحالة النفسية حالة الوحدة والصمت وحالة التعب النفسي الصحراوي الحلو، والعسس الأسود، والنفاق الحر، وصوت المعادن. وهذه الصور والفضاءات تحيل القارئ إلى الذات الشاعرة المتأزمة والقادرة على التسويق المعنوي والتعريف بالواقع المؤلم في حياة شعرية باذخة. وفي المقطع الرابع، يستدعي شاعرنا الرمز الجاهلي عبر بيته العمودي في مطلع النص/ القصيدة، ويسمه بـ»عروة الأصدقاء» مستجلباً في ذاتنا الشعرية الصعلكة ومفاهيهما التي رسخها عروة في مبثوثاته وحكاياته مع الصعلكة. يتنامي هذا المقطع، عبر الأسئلة الوجودية الكبرى التي يحملها شاعرنا: «أنخرج من قشعريرة موت لايموت»/ «أحق مازلنا ببابك يا أيها الخرّمي» وهنا يأتي هذا الرمز التراثي (بابك الخرمي) أحد زعماء وقادة الحركة الخرمية الثورية ضد الدولة العباسية وما تبعها من أفكار وحمولات شيوعية. «متى نتخرج من فصول تحتوي اللغة التي في معطف الرجل الواقف خلفي» بهذه الأسئلة الشائكة المتشابكة مع التاريخ الثوري والأفكار المذهبية من خلال الرمز والإشارة التي جاءت في لغة مكثفة وغير مباشرة تحيل إلى دلالات وزمانات تاريخية. في المقطع الخامس لايزال شاعرنا في حوار مع الرمز (عروة الصعلوك) ليتناص - في آخر هذه المقطع - مع مقوله شعرية ضاربة في الدلالات والمعاني المؤدلجة: «لا يسلم الشرف الرفيع» الذي نحته الشاعر الحكيم المتنبي في بيته الرائع: «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم» ويضيف إليه حكمة معاصرة: «لا يسلم النَّذل الوضيع» لتشكل مع حكمة المتنبي أيقونة متماثلة حساً ومعنى. وفي أول هذا المقطع يحضر (الوطن) الهارب من رائحة البحر ومن صوت النادل في أصغر مقهى!! وطن جديد يصطفيه الشاعر كما هي طبيعة المرحلة الحداثية وشعرائها السعوديين. وفي المقطعين السادس والسابع يتعالق الشاعر/ أحمد عايل/ الشاعر المعاصر، مع الشاعر التراثي/ الرمز (عروة بن الورد) ويبثه الأسئلة الوجودية والإنسانية وشيئاً من واقعه العربي «عروبتي اتسخت، عروة الوقت النفطي». والجميل هنا أن شاعرنا ينادي رمزه التراثي مرة مفرداً ومرة جماعة: يا عروة الصديق/ يا عروة الأصدقاء: وفي هذا دلالة على الفردانية والمجتمعية التي يمثلها واقع الشاعر بين صديق واحد معروف، وبين مجموعة من الأصدقاء الذين يمثلون الشعرية المعاصرة المشابهة لما يتعاطاه شاعرنا (أحمد عايل فقيهي) متسائلاً معه/ ومعهم: ماذا ترى؟! وفي المقطع الثامن يأتي الجواب لجميع الأسئلة الشائكة والمتشابكة التي تم طرحها في المقاطع السابقة: «اهدأ.. وتأن قليلاً/ فإن سعال الريح على الهامات طفل/ مازال فتياً يبتدئ خطاه/ وعيون الغضب اتسعت حد شواطئنا المثقلة بأيام من زيت.. جنس/ من عنعنة». هذا الجواب الذي يبدو ذاتياً، صوت الذات والنفس الشاعرة أو هو صوت آخر؟! يدعونا للهدوء والتأني فرياح التغير قادمة وهي لازالت في بداياتها (سعال الريح على الهامات طفل ممتد) (مازال فتياً يبتدئ خطاه). ثم يختم شاعرنا نصه بما يشبه تصوير الواقع الذي وصلت إليه العروبة يوم أنشد هذا النص/ القصيدة، ويستشرف المستقبل المنتظر حسب رؤية الرمز والتاريخ وتوقعاته الآفاقية!!. «يا عروة.. هذا الشرف الرفيع - (رمز العروبة/ الكرامة والنصر والتقدم الحضاري) «تكلس.. وأناخ/ حتى عفّر في التراب» (رمز التخلف والرجعية والممانعة)... ثم يتساءل شاعرنا - بعد هذه الاعترافات الخطيرة: «فماذا في الأفق.. ترى؟؟» وفي هذا دلالة على قدرة التراث. والشعرية العمودية التي يمثلها هذا الصعلوك/ الرمز عروة بن الورد قادرة على استشراف المستقبل، ورؤية القادم استجلاءً ومحايثةً لأن الماضي والتراث قادران على ذلك!! وهذا اعتراف من الشاعر الحداثي بالدور الكبير الذي تصنعه القصيدة التراثية العمودية/ الكلاسكية/ التقليدية في الانتقال إلى العصور الجديدة ومتابعة التطور والتنامي بعد التجذر والتأسيس!! وختاماً : تأكد لنا من خلال هذه المكاشفات والمقاربات أن جيل الحداثة الشعرية في السعودية قد تشكل وتنامى من خلال المدرسة الشعرية التراثية / التقليدية، والمد الصحفي والشعري الإقليمي والتثاقفات الفكرية والتجديد التي خلقت لنا جيل الثمانينات الحداثية. ولعلنا نستكمل بعض شعراء المرحلة في مقاربات قادمة إن شاء الله .
مشاركة :