في هذه السلسلة نحاول التعرف على جملة من رموز الشعر في السعودية، ومدى تثاقفهم وتعالقهم مع المنجز المعرفي والشعري العربي من خلال شهاداتهم وبعض إنجازاتهم الشعرية. من رموز الشعر السعودي، الشاعرة فوزية عبدالله أبوخالد التي أعربت عن مثاقفتها البنائية لتجربتها الشعرية في شهادتها حيث أشارت إلى أن تجربتها الشعرية مرت بمنعطفات مليئة بالجروح الاجتماعية والسياسية والتاريخ الإبداعي. وكانت أول هذه المنعطفات رحلة إلى بيروت التي كانت مقرراً لها أن لاتتجاوز (أربعاً وعشرين ساعة) لكنها امتدت إلى (سبعة أيام) «كانت كافية لاستخراج الجراح ولتربية وحش الأمل ليقض مضجعي بسؤال التجديد الشعري وسؤال المستقبل الوطني عربيا ومن جديد!! وهما السؤالان السياميان اللذين شكلا تجربتي الشعرية من اللحظة الأولى – كما تقول -. وقبل بيروت وأثرها الثقافي مع المبدعة فوزية أبوخالد، كانت تنشئتها الأولية فهي بنت لأب نجدي تمسك بقيم البداوة وأم حجازية تعشق العلم والتعليم، وتشكلت شخصيتها بين الأصالة البدوية والانفتاح الحجازي، فكانا رافدين مهمين لشغفها بالقراءة والحرية والمضي إلى دهاليز الثقافة. وفيما بين الطفولة المنفتحة أسرياً وثقافياً ناداها شغفها بالكتابة منذ عمر مبكر وحتى المرحلة الثانوية إلى أتون الصحافة فعملت محررة في صحيفة عكاظ وكاتبة في نفس الآن. وهناك – في عكاظ – اكتشفت مبكراً «أنها ترحل بالكلمات خارج البعد اليومي والوظيفي، وتأخذها لعوام السحر والأساطير ولابد من الانخطاف الصوفي والتأمل الفلسفي». ومن تثاقفاتها الفكرية والصوفية والفلسفية تشكل لديها نسق فكري مع معطيات هذه المثاقفة الواعية، فتعاضد الشعري بالفلسفي وانشغالها للتعبير عن أسرار الوجود ولو همساً طفيفاَ داخل بنية القصيدة الحداثية التي تكتبها وتبوح بها (فوزية أبوخالد). ومن ارتباطها بالأمومة وتجلياتها «تفتح وجدانها على الجسر الذهبي الذي يربطها بأم محمد، ولكل معاني الأمومة والإباء والتطلع النظري لأنوار الغد، فتعلمت منها فوزية (معنى الأمومة) لـطفول وغسان/ ابنيها اللذان يتعلمان منها هذه المعاني ولكل الزهور والصحراء والأشجار والبحار والمحيطات الإنسانية». وهنا تؤكد بأنها تدين للمرحلة البيروتية بكثير من المثاقفات التي صقلت وعيها بالقضايا العربية والفلسطينية واللبنانية والاجتياح الاسرائيلي على لبنان» والتي كان لها – بالتأكيد - أثرها على الكتابة الشعرية والمقالات الصحفية والكتابات الاجتماعية. ومنذ العام 2014م كانت الشاعرة فوزية أبوخالد تحيا تحدياً ذاتياً وموضوعياً في السؤال الشعري لما بعد الحداثة من ناحية والسؤال السياسي/ الوجودي/ الضميري لما بعد انخطاف الربيع العربي وحريق العالم العربي الذي كنا نعرف، وعلى إيقاع السؤالين كتبت ديوانيتها الأخيرين (ملمس الرائحة) و(ما بين الماء وبيني) «كمحاولة خارقة وإن بدت مرهقة أو ضالة للبحث في السؤالين: سؤال التجدد الإبداعي، وسؤال التحولات الاجتماعية والسياسية وخاصة في ظل الثورة التكنولوجية الكونية» – كما تقول في شهادتها الشعرية. وتضيف في شهادتها بأنها حرصت على متابعة شغفها القرائي وشهوتها الطائشة المتبتلة بالبحث عن غواية حديثة للشعر والشعراء، فمن الخيبات السياسية وشاهد الرماد والخراب، تساءلت: أي قصيدة يمكن أن تعبر عن هذا العدم البواح وأي شعر نحتاج اختراعه اليوم لتفادي هذا العدم؟! – ثم تؤكد أنه «لا يمكن لأي قصيدة تراثية أو معاصرة من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر أن تواجه هذا التحدي الشعري لهذه المرحلة التي نعيشها اليوم». وأخيراً تختم شهادتها بأنها تقف الآن أمام تحدي كتابة (الشعر الطليق) يتجاوز منجز قصيدة النثر فأعود طفلة من جديد!! – ثم تتساءل – هل لي كشاعرة أن أنشغل باليومي والعادي في كتابة قصيدة النثر، ولم يعد اليومي يومي ولا العادي ماتعودناه بل أصبحت كل أسئلة الشعر السابقة محض تمارين رهينة على أسئلة الشعر المرهفة الفاجعة القاسية الجديدة؟! ثم تؤكد «ليس للشاعر إلا شجاعة استلهام الأسئلة، إذا أراد أن يبقى على قيد الشعر في الحياة والموت». وبهذه المثاقفات التي كونت شخصية وتجربة الشاعرة (فوزية أبوخالد) يمكن أن تتبدى لنا تجلياتها وفضاءاتها التثاقفية، عبر آخر دواوينها والتي سنستعين بالشاعر الناقد/ علي الدميني في مكاشفة فضاءاتها التثاقفية(17)، حيث يرى أن الديوانين الأولين للشاعرة (فوزية أبوخالد) فيها منحنى «التسريد الشعري» «من خلال ما توظفه من بناء جمالي تتشكل فيه الشخصية والحدث والمكان والمشاعر الوجدانية»(18)، وقد انتظمت إبداعات الشاعرة «في خيط حواري رهيف بنسج تشكيل شعرية النص من: كثافة العبارة وفضاءات المجاز والاستعارة وترابط الداخل بالخارج وتوظيف غنائية الصوت الداخلي وحراراته وحرائقه. نجد في بعض قصائد الشاعرة استعادة للرموز التاريخية وبعض السير الملحمية المعاصرة التي تتلبس «هجاءً نقدياً للواقع المحلي والعربي في كافة حمولاته ومكوناته» وبالتالي فهي قادرة على التخليق الشعري في بعديه الاستعاري والكنائي، والمؤالفة بين التاريخي والأسطوري وفواجع الواقعي المعاش. ففي قصيدتها (معين) المهداة إلى روح الشاعر الفلسطيني (معين بسيسو) تقول: «كان وجهك كرملياً يدخل غبار الرماد لينتفض عن يافا التعب كان ذهابك معلقة الانكسارات عندما يحال بين المنجل وبين الغضب ... معين ذهبت تنفرط عيون إلزا على ترابك الآن عقداً من البارود والياسمين» ومن هذا المقتبس يلاحظ الناقد توغل الشاعرة في الهم الفلسطيني والقضايا المحيطة بأفراده ورموزه فنجد الكرمل، يافا، إلزا، ونجد غبار الرماد والتعب والانكسارات والمنجل والغضب والبارود والياسمين. هذه التواشجات المفرداتية وإحالاتها ودلالاتها تبين أننا أمام إبداع شعري وتشكيل فني يعبر عن تراجيدية الألم والافتقاد، وفي نفس الوقت التفاؤل بأشجار الأمل المنتظر. وفي ذلك أكبر دليل على ما أفضت به مثاقفاتها في البعد الوطني والعروبوي وتغلغل القضية الفلسطينية ورموزها ومآسيها في ذهن الشاعرة منذ ارتباطها الوثيق بهذه المسألة في سنوات التشكل الشعري. وفي نص آخر بعنوان (قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي) «يبرز التعبير الشعري الذي يجمع بين الصورة والضمير بين الطريقة والشعرية، وبين الموضوع والخطاب». في هذا النص تكاشفنا الشاعرة عن جذور الأوجاع المزمنة في تاريخنا العربي عبر ثمانية مقاطع أسمتها (مراحل) يتضح فيها وطأة الصمت، والقراءة في السر، وكشف عتمة الصمت، وقضايا فلسطين المستلبة، وتحرير المرأة من أحمال الإقصاء والاستلاب والتهميش، عبر قولها الشعري: «لا أجيد من فنون الحرب غير الكتابة» في هذا النص أيضاً «يتضح موقع أنثى القصيدة كذات ورمز للمرأة والوطن الذي يتسع من مكان المعايشة اليومية إلى الوطن الوجداني والثقافي والحلمي الأشمل الذي يشغل ضميرها كأنثى مقموعة وكمثقفة مهمومة بأوجاع وطنها وأمتها العربية المتفاقمة منذ عام النكبة وحتى اليوم». وهذا ملمح آخر يجعلنا نؤكد مدى ارتباط التكوين الثقافي للشاعرة فوزية أبوخالد وانبنائه على المكونات الوطنية والقومية والواقع الأنثوي المعاش يوم كانت في بداية تشكلاتها الثقافية.
مشاركة :