في هذه السلسلة نحاول التعرف على جملة من رموز الشعر في السعودية، ومدى تثاقفهم وتعالقهم مع المنجز المعرفي والشعري العربي من خلال شهاداتهم وبعض إنجازاتهم الشعرية. أحد الرموز الشعرية السعودية الذي «تبنَّى» الشعرية الحداثية في بداياته هو الشاعر/ المبدع محمد جبر الحربي. ومن شهادته(5) نستخلص شيئاً عن مثاقفاته وتفاعلاته القرائية التي شكلت شخصيته الشعرية. ولا شك أن الطفولة هي المدخل الأول لهذا التشكل ففي الطائف حيث «الجبل والندى والتنوع المثري لعيون الطفولة النَّهمة المتسعة لدهشة الألوان والتعدد والاختلاف» حيث كانت الطائف محطة التقاء لجميع القادمين من كل جهة بتنوعاتهم البدوية والتثاقفية والتمدنية!!. وهنا - في الطائف - عاش اليتم بعد وفاة أمه، والحزن بعد سفر أخته الكبرى سفراً بعيداً أفقده الروح الأسرية وأورثه الحزن الذي كان له آثاره المعنوية في مسيرته الشعرية فيما بعد. ولكنه – رغم ذلك - عاش طفولته بين اللعب مع الأقران والركض في الوديان والزهو بالبيئة المكانية الطائفية وزهورها وبساتينها وثمارها وأمطارها وسهولها وجبالها التي شكلت جمالياته وذوقه مما تمتلكه الطائف من جماليات طبيعية مؤثرة. ومع سني تمدرسه الأولية ــ في مدارس الطائف الابتدائية والمتوسطة كان من الدارسين النابهين، تفتقت ملكاته القرائية، واطّلاعاته المعرفية، وتثاقفاته المبكرة على المجلات المصورة «سوبرمان والوطواط، وميكي ماوس» ثم تنامت قراءاته في روايات وحكايات (أبي زيد الهلالي وعنترة العبسي وأرسين لوبين وكثيراً من الكتب التي يحضرها الإخوة وتبقى في زوايا البيت). يذكر أديبنا محمد الحربي - في شهادته - أنه كان محباً للقراءة ومجيداً للغة ومشاركاً في الأنشطة المدرسية عبر الإذاعة والخطابة ووجد من المعلمين كل تشجيع وتحفيز، حيث أهدوه في إحدى المناسبات كتابين مهمين شكلا ذائقته الفكرية والأدبية والعقدية، وهما شبهات حول الإسلام، والطريق إلى الإسلام لمحمد قطب/ المفكر المسلم، فانتقل بذلك من القراءات القصصية إلى الكتب الجادة. ولما سمع بمكتبة السيد – في الطائف - آوى إليها مطلعاً وقارئاً، حيث تحضر المجلات والكتب والجرائد الجديدة، وتقدم تسهيلات ثقافية لمحبي القراءة والاطلاع، فهناك قسم لتأجير الكتب وإعارتها واستبدال القديم بالجديد، فاستفاد منها أجمل الاستفادات. ومن ذلك حصوله على كتاب جواهر الأدب لعبدالحميد الهاشمي، ودواوين الشعر العربي، من الفرزدق إلى جرير والأخطل والمتنبي والخنساء والحطيئة، وعاش معهم كل جماليات الشعر وموضوعاته ولغته وقوافيه وشروحه ومعانيه. ولما ترقّى - دراسياً - إلى المرحلة الثانوية وانتقل إلى الرياض أسعده الله بمعلم/ أديب، وقارئ حصيف، في مدرسة الفيصل الثانوية وهو الأستاذ/ محمد هيكل شامي الجنسية!! ودرَّسه البلاغة والنقد وحببه في هذا المجال المعرفي من خلال قواعد اللغة والموسيقى والبيان وارتباط الشعر بهما «وكان المعلم يحول هذه الجمادات اللغوية إلى كائنات تتكلم وتغني وترقص. كانت الإيقاعات تملأ المكان وتحرك الهدوء الساكن» ولذلك يحمل لهذا الأستاذ/ المعلم كل آيات الحب والتقدير والامتنان فهو الذي فتح أبواب اللغة العصيّة «ليتلألأ جوهرها السحري». ولما بدأت مواهبه الشعرية تتفتح، وكتاباته الأولية تظهر تبناه هذا المعلم ونمى ذائقته الأدبية وشجعة على النشر وإخراج ما لديه للقراء والمهتمين بعد أن يجري عليها التعديلات والتصويبات والمفردات البديلة. وعقب المرحلة الثانوية بدأت الغربة والصدمات الحضارية والتعالقات الثقافية الجديدة بخروجه من الوطن إلى بلد الدراسات العالية والحضارات السامقة إلى بريطانيا/ إنجلترا وهناك استشرف الطب مجالاً للتخصص لكن روحه الشعرية والأدبية أعادته إلى الوطن. فلم يكن الطب طريقه الصحيح. في إنجلترا تشكلت شخصية محمد جبر الحربي وتأثراته الحضارية «فتحت لي نوافذ اللغة والموسيقى والألوان الطبيعية والناس والآخر والنظام والمواعيد الدقيقة» رغم ما يحسه من غربة داخلية وخارجية. وفي بريطانيا التقى بشاب سعودي متطلع له كاريزما خاصة ولغة جريئة وحب للشعر وكان يخطط لحياة صحافية جديدة ومغايرة وهو عثمان العمير والذي سيكون له أثراً وتأثيراً في المجال الصحفي. ورغم ذلك، عاد لدياره السعودية وهو يحمل همّ الأسئلة الكبرى والواقع المرير المضطرب فتشكلت نزعته الشعرية العروبوية والوطنية. عاد لدياره مكسور الخاطر، مؤمناً بالجديد والحديث، متخلصاً من الرومانسية والكلاسيكية وشعر العذريين ليدخل إلى مجال الشعر المرتبط بالقضايا الكبرى وبالوطن وباليومي وهموم الناس. عاد ليكثف قراءاته الشعرية والأدبية والسردية وقراءة المترجمات والمحليات. تداخل مع الموسيقى والفنون ليتشكل من هذا الخليط روحاً إبداعية وشعرية متجددة. وفي عام 1979م بدأت حياته الصحفية حيث زار جريدة الجزيرة لنشر بعض نصوصه الشعرية فكان «عثمان العمير - صديقه الذي التقاه في بريطانيا - يستقبله ويعرِّفه على نسيم الصمادي - الأديب والمثقف والصحافي الأردني - وأحد المحررين الثقافيين والشعراء المبدعين في جريدة الجزيرة. ونُشرت قصائده باحتفاء باذخ وتبشير بميلاد شاعر قادم، ومع الأيام تعرَّف على زملاء المرحلة من شعراء وقاصين ونقاد كان لهم أثرهم المعرفي والثقافوي بكل تأكيد. كانت المرحلة العملية في الصحافة، ذات أثر تثاقفي كبير فقد جمعته برموز الشعر، وأصحاب التجارب الكبيرة من جيل القصيدة الحديثة، القصيدة المتجددة ليس في شكلها فقط وإنما على مستوى اللغة والإبداع والحداثة. وفي هذه المرحلة التقى مع تجارب ومشارب ومدارس شعرية مختلفة، التقى برموزها وجلس إليهم وتثاقف على طروحاتهم فكانت اختلافاتهم تذوب فيما يسود بينهم من إخاء وألفة ومودة. فكانوا كتلة ثقافية متحدة/ متجددة لم يكن لهم «خصام» مع القصيدة الحديثة ولا مع شعرائها لأنهم جميعاً كانوا متجددين متطورين متابعين، ولديهم رحابة صدر وبُعد نظر وقدرة على التفاعل. كل هذا جعله يتفاعل مع القصيدة المتجددة، فالعمودي يزهو بالتفعيلة، والتناظر بالتدفق والانشطار بالتشظي والشيوخ بالشباب والقديم بالجديد «كما يقول في شهادته»(6). وفي هذه المرحلة الصحفية تكثفت قراءاته الإبداعية وعلاقاته الشعرية والثقافية، يقول في شهادته: أن عبدالله الصيخان - الشاعر الحداثي الذي سبق الحديث عنه - تنبأ له بالنجاحات الصحفية والمستقبل الجميل مع الصحافة فكان ذلك دافعاً للالتحاق بمجلة اليمامة التي يقودها - آنذاك - الدكتور/ فهد العرابي الحارثي الذي أوصله إلى سدة الثقافة اليمامية عليها وعبر سبع سنوات تتجلى إنجازاته الصحفية «سبع سنوات ساحرة، ساهرة زكية طاهرة سنوات شاعرة. في اليمامة - كما يقول - تعلمت الصحافة من الألف إلى الياء ونمت فيها شجرة الحب وجاءت فكرة (أصوات) الملحق الثقافي المعني بأدب الشباب الجديد/ الحديث» ومع هذا التواجد الصحفي الثقافي المبهج في حياة وتجربة شاعرنا محمد جبر الحربي، انفتحت له أبواب السفر والتعارف على رموز القصيدة الحديثة واستفاد منهم ونشر لهم الكثير من القصائد التي أثرت في تطوير أدواته الشعرية فنشر قصيدة الإمام الغزالي للشاعر خالد سعود الزيد، وقصيدة المعلم للشاعر/ يوسف الصايغ وقصيدة/ مصطفى للشاعر/ عبدالله البردوني. وبهذه المواصفات تشكلت شخصية وتجربة الشاعر محمد جبر الحربي، ليضع اسمه في قائمة الشعراء العرب الذين تبنوا القصيدة الحداثية وانصهروا في تجلياتها مع تشبعه بالقصيدة التراثية العمودية والتجديد فيها. ولعلنا نقف مع إحدى نصوصه الحداثية التي تتجلى فيها آفاق تجربته ومثاقفاته وهي قصيدة (خديجة) الواردة في ديوانه الصادر عام 1997م بنفس عنوان القصيدة. تعتبر هذه القصيدة إحدى ثلاث قصائد شكلت بدايات التعاطي مع النصوص الحداثية في السعودية، ورغم أنها لا تمثل أولى قصائد الشاعر/ محمد جبر الحربي ولم تكن التجربة الحداثية الأولى إلا أن كثيراً من النقاد اعتبروها من القصائد المؤسسة لحركة الحداثة الشعرية وبالتالي ما قام عليها من دراسات نقدية حداثية. لم تلبث هذه القصيدة أن أصبحت واحدة من أهم عتبات قراءة التجربة الشعرية لمحمد جبر الحربي عندما توجت لتصبح اسماً وعنواناً لديوانه الثالث. فـ(خديجة) رمز اسمي دال على الكتابة الجديدة، أو هي الكلام الذي لم يكن مباحاً، الكلام الذي له نافذة يطل منها الشاعر على العالم من حوله فيراه عالماً غامضاً طرياً يسرج خيلاً لعنق الشمس (كما يقول الناقد سعيد السريحي)(7). القصيدة - كما هي منشورة في موقع الشعر، وفي موقع ديوان الشعر (www.diwandb.com) - ويبدو أنها كذلك في الديوان نفسه غير الموجود لدي - من القصائد المطولة في شعر الحداثة السعودية، وغير مرقمة أو موزعة إلى مقاطع وأجزاء، وإنما جاءت انثيالاً وتتابعاً ومكتوبة على النظام السطري - كجميع القصائد الحداثية - وتنتمي إلى قصيدة التفعيلة غير المنضبطة والقريبة من النثرية. والحرة، ولكنها تحمل لغة شعرية وفضاءات من الموسيقى الداخلية، وصور بلاغية آسرة. ولذلك فلابد من تقسيمها إلى مقاطع ليسهل علينا الدراسة النقدية والتحليلية. وبعد قراءتها وإعادة النظر إليها وجدنا أنه يمكن تقسيمها إلى ثمانية مقاطع، حسب التوزيع التالي: المقطع الأول يبدأ بقول الشاعر: طلعت فتاة الليل من صبح الهواء... المقطع الثاني يبدأ من قول الشاعر: وضعت يديها فوق نافذة الكلام.. المقطع الثالث: جلست على طرف الكلام. المقطع الرابع: دخلت على الحجرات. المقطع الخامس: كشفت وكم كشفت عن الأوراق... المقطع السادس: طلبت مواني/ فتشت في السفن.. المقطع السابع: طلبت مداداً/ جف ماء البحر.. المقطع الثامن والأخير: طلعت خديجة من تفاصيل الهواء... وعبر هذه المقاطع الثمانية كانت الأفعال المتسيدة شعرياً هي الأفعال الماضوية حيث بلغت تقريباً (84 فعلاً ماضوياً) بينما تقل الأفعال الدالة على (الحاضر). وهذا يعطينا مؤشراً على انبناء القصيدة/ النص على الزمن البعيد الماضي، زمن القصيدة النفسي، وزمن الكتابة الشعرية. ويؤكد هذا المسار الماضوي بدايات المقاطع الثمانية/ التي اقترحناها - لقراءة وتحليل النص/ القصيدة - كما سبق ذكره. وهذه البدايات المقطعية تحمل شعرها وشاعريتها من حركية الفعل رغم ماضويته، ومن إيحاءات الصور التي يخلقها الشاعر في نصه، ومن الدلالات المتوارية خلف المعجم الشعري الذي يتكئ عليه الشاعر. ومن الأنثوية المسيطرة على مفرداته من خلاله «تاء التأنيث» وكل ذلك مما يصنع الألق الشعري والجاذبية القرآنية. يتبدى في المقطع الأول (فتاة الليل التي طلعت من صبح الهواء)، وتتكرر هذه الفكرة في ذات المقطع (جاءت فتاة الليل مع صبح الهواء)، ثم تغيب هذه الفتاة, إلا من ما يدل عليها - تاء التأنيث/ الضمير العائد إليها إلى أن نصل إلى المقطع الثامن فنجد تعريفاً بتلك الفتاه إنها (خديجة) التي (طلعت من تفاصيل الهواء)!!. هذا الخفاء والتجلي هو ما يميز شعر الحداثة السعودية وهو نتاج مثاقفات واعية مع المنجز النقدي والشعري في أفقه العربي ويبدو هنا (الحربي) و(خديجته) الشعرية متجاوبة مع هذا الأفق التثاقفي وإن في مستوياته العمومية. في المقطع الأول، أيضاً، تتجلى كثرة الإنجازات لفتاة الليل: - أورقت تيناً وزيتوتاً/ ألقت للنخيل تحية الآتين/ دخلت على الأطفال/ مالت للحديث فأزهرت/ قرأت كتاب الله/ انتثرت الكلمات/ اكتفت بالصمت. وفي هذا تنامي الفعل وتطوراته وكلها ذات دلالات إيجابية. وأما المقطع الثاني فتبدو (فتاة الليل) (تضع يديها فوق نافذة الكلام) و(تحتفل بميلاد الحروف) و(تطلق عصفورها للبوح) وهنا تتضح دلالات الكلمة وعنفوانها وصناعتها على يد الأنثى/ فتاة الليل التي تجترح الكلام وتولد الحروف وتطلق حنجرتها بالبوح الشفيف في صيغة آمرة: لا تزرعوا قمحاً/ لا تركبوا بحراً/ لا تطلبوا أجراً. وكأني بـ(الحربي) هنا يبرر مولد القصيدة الحداثية وتفجير كلماتها ومفرداتها الحداثية، ويسوق لها عبر هذا المتن الشعري على لسان (فتاة الليل) (خديجة) فيما بعد(8). وتتنامى القصيدة في مقاطعها التالية لتدخل إلى رصد الأفق المنتظر (لهفي على وطن يغادرنا ليسكن في المحافل) (فتشت عن وطن بديل) وطن سراب/ وطن ضباب/ وطن تراب! وتنتهي هذه القصيدة/ الرمز في مقطعها الثامن بالتعريف بـ(فتاة الليل) ويسميها (خديجة) التي تنمو على يديها القرى. وينمو الهوى، وتتحقق النبوءة. نبوءة الحداثة الشعرية وإدخالها إلى المتن الثقافي والشعري. ونبوءة الوطن المنتظر. وهذا هو التحول الرمزي للقرية ومحاورها الدلالية في القصيدة حيث بدأت (قرية) متعبة «ونمت حبيبات الندى مطراً على تعب القرى»، وانتهت إلى (المدينة/ الوطن) في صورته الباهتة: (استروا عري البلاد/ وسوأة المدن اللقيطة... كلا ورب السيف والكلمات والمدن الخرافة!!»(9). ومن كل هذا التداول الشعري نجد نص (خديجة) لمحمد جبر الحربي يؤسس للتجارب الحداثية الجديدة، بل يعد فتحاً جديداً في الشعرية السعودية، ويتضح فيه قمة الوعي والإدراك والتثاقف الواعي من حيث سك معمارية النص المتماسك والمفضي بعضه إلى بعض، ومن حيث الترميز والإيحاءات الدالة على هذه النقلة الجديدة وتحولات المكان، ضمن نقدات شاعرية ملفتة يتنامى فيها الوطن/ الواقع، والوطن/ المأمول المنتظر. وهي نقدات واضحة وجدناها عند كثير من شعراء الحداثة السعودية. الهوامش: (5) خالد أحمد اليوسف: التجربة الشعرية..../ شهادات ونصوص، سبق ذكره، ص ص 355 - 367. (6) خالد اليوسف: سبق ذكره ، ص 356 ــ 357 (7) انظر: سعيد السريحي: قراءة في تجربة الشاعر/ محمد جبر الحربي من الصمت والجنون حتى نافذة الكلام، مجلة هنا الرياض، الموقع الرسمي للشاعر/ محمد جبر الحربي. (8) انظر قراءة أميرة المحارب: ثيم المكان المتحولة في نص خديجة للشاعر/ محمد جبر الحربي (مقاربة موضوعاتية) نقلاً عن موقع الشاعر، سبق ذكره. (9) انظر: د. سعيد السريحي: الحداثة في تجربة محمد جبر الحربي، عكاظ، الأربعاء، 26فبراير 2014م.
مشاركة :