الرواية جنس أدبي ذو بنية شديدة التركيب، اللغة وسيلتها في التعبير، والخيال، والواقع أيضا، لبنتان أساسيتان ترويان هذه اللغة لتنمو وتخصب، لينضاف السرد - باعتباره تقنيات وآليات مخصوصة - ليقدم للعمل خصوصيته وهويته الأجناسية. وبالنظر إلى أن الرواية عرفت خلال مسار تكوُّنها تطورات عدة ارتبطت أساسا بالمذاهب الأدبية المتعاقبة، والحساسيات الفنية المختلفة، فسنحاول في مقالنا هذا أن نرصد مظاهر تشكل الرواية العربية في فترة الستينات من القرن العشرين؛ باعتبارها حقبة حارقة من التاريخ العربي المعاصر؛ حقبة عرفت مدّا قوميا قويا، ونكسة صادمة، وتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية بالجملة طبعت ليس الجنس الروائي فقط، بل المجتمعات العربية برمتها بطابعها الخاص. أجمع النقاد على أن رواية زينب لـ «محمد حسين هيكل» - الصادرة سنة 1913 - هي أول رواية عربية توفرت على الحد الأدنى لما يسمى رواية في الآداب الغربية. حفلت هذه الرواية المؤسِّسة بالأجواء الرومانسية كالاعترافات الذاتية، والمناجاة، والخلفيات الطبيعية.. فشكلت بالتالي بداية لمرحلة اهتمت بالذات وبمختلف الموضوعات العاطفية الوجدانية. وبسبب مجموعة من العوامل، سيتجه هذا التيار الرومانسي الوليد - تدريجيا - نحو الانطفاء لتخلو الساحة للواقعية كي تسود وتهيمن. ولا مِراء في أن فترة الستينات من القرن العشرين، عرفت أوج المد الواقعي في العالم العربي. من أهم هذه العوامل: الظروف السياسية التي عرفتها المجتمعات العربية آنذاك؛ حيث تنامى المد القومي، وصعدت حكومات اشتراكية إلى سدة الحكم؛ تردّي الواقع الاجتماعي، وانتشار البطالة والفقر والحرمان؛استفادة النقاد والروائيين العرب من تنظيرات الروس للواقعية الاشتراكية، لاسيما بعد أن زار «محمد منذور» الاتحاد السوفياتي والتقى بالكاتب الروسي «قسطنطين سيمونوف» (1915 - 1979) الذي أحاطه علما بأهم مبادئ هذا التيار الجديد؛ العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 الذي مهد لكي يساهم الأدب - والرواية أساسا - في التعبئة للمعركة والمقاومة؛ نكسة 1967 أما العدو الإسرائيلي، وبداية التشكيك في النموذج الناصري (سياسة «جمال عبدالناصر») الذي كان يَعِدُ الجماهير برمي إسرائيل في البحر؛ الرغبة في تحويل مفهوم البطولة - تبعا للتحولات الاجتماعية - من الفرد إلى الجماعة؛ أي إلى الشعب، مع التركيز على شرط أساس وضروري: الوعي بالذات الجماعية»؛ التطلع إلى بلوغ ما وصله العالم الاشتراكي من تقدم (خاصة الاتحاد السوفياتي) سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا.. وحتى أدبيا؛ فقد ظلت الواقعية الاشتراكية تحلم بعالم طوباوي / مثالي لن يتحقق بقصر الحديث على الحب والرومانسية، ولكن بتوفير حاجيات الناس ومتطلباتهم. لذلك آمن السوفيات بالمقولة التالية: «ما قيمة الحديث عن الحب في مجتمع يحتاج إلى الخبز والدواء؟». صوَّرت الرواية خلال هذه الفترة مختلف مظاهر هذا التأزم المجتمعي، متأثرة في ذلك بتيار واقعي مخصوص هو «الواقعية الاشتراكية» التي ظهرت في الاتحاد السوفياتي، وكانت تؤمن بقدرة الإنسان على تغيير العالم والتحكم في مصيره (الأدب وماهيته، محمد منذور). يرتكز هذا التيار على ثلاثة مقاييس أساسية: التفاؤل أولا، والإيجابية ثانيا، والمسؤولية ثالثا. وعلى هذا الأساس انتقلت الرواية العربية من الذاتية وتصوير الطبيعة والنفس الإنسانية، إلى الاهتمام بالفرد في علاقته بمحيطه المجتمعي، خاصة في ظل التطورات التي عرفتها المجتمعات العربية على كافة الأصعدة والمستويات. وهكذا، طبعت الرواية العربية بطابع الالتزام والمسؤولية، وأصبحت تهتم بتصوير بطل إيجابي متفائل يتطلع إلى التحرر والانعتاق من القيود كيفما كانت أنواعها؛ سواء أكانت قيودا مادية حقيقية (الاعتقال مثلا)، أو قيودا مجازية رمزية (ثقافية مثلا). لذلك شدد النقاد المتشبِّعون بالاشتراكية بضرورة احترام المقاييس السالف ذكرها؛ فالبطل ينبغي أن يكون إيجابيا، خاصة في اللحظات العصيبة والمواقف الحرجة؛ لهذا السبب لاموا «يوسف إدريس» - مثلا - على تصويره لمواقف سلبية، ولنزعات تشاؤمية في مسرحيته اللحظة الحرجة. لقد كان المجتمع العربي خلال هذه الفترة يغلي بمجموعة من التحولات التي ساهمت في إخراج الأدب من ربقة الأساليب القديمة والمفاهيم الجامدة، ودفعته في المقابل إلى الالتزام بقضايا التحرر والحرية. فهذا «حنا مينا» - الروائي السوري الشهير - يرصد مختلف ما أسلفناه في روايته ذائعة الصيت الشراع والعاصفة. ينبني السرد في هذه الرواية - تبعا للناقد المغربي «محمد اليابوري» في كتابه الرواية العربية التكوُّن والاشتغال - على ثلاثية محورية هي: حكي يشبه ما نجده في ألف ليلة وليلة (ويبرز ذلك في تنقلات «الطروسي» بين «أم حسن» و»ماريا»)؛ حكي سيري بطولي (غير أنه منزاح عن وسطه الصحراوي الاعتيادي إلى وسط بحري: الدفاع عن البحارة، وإنقاذ الشختورة)؛ حكي روائي واقعي، يحاول تصوير مختلف التحولات التي عرفتها سورية، لاسيما اللاذقية مسقط رأس الروائي، على كافة المستويات؛ وهو ما يهمنا في هذا السياق. يصور «حنا مينا» شخصيات تنتمي إلى الطبقات الكادحة؛ شخصيات تعاني شظف العيش وتكابد البؤس اليومي في سبيل لقمة يبدو أنها غير سائغة؛ لذلك فقد اهتم بواقع الصراع الطبقي في سورية، وحاول أن يصور بطلا إيجابيا، متفائلا، جعله ينتصر دائما في صراعاته الرمزية. لقد كان هذا الكاتب مؤمنا أن البحث عن الذات يكمن في البحث عن العدالة الاجتماعية. وعلى العموم، حاولت جل روايات المرحلة التأكيد على قدرة الإنسان على الكد والعمل من أجل الاستمرار، ومن أجل تكييف واقعه بشكل يخدم أهدافه وطموحاته في الحياة، وتصوره المخصوص لما يجب أن تكون عليه. لذلك اعتبر الناقد والروائي المغربي «محمد برادة» أن الرواية جاءت «لتؤكد أن الواقع ليس معطى من البداية وليس واحدا ولا أحاديا، ومن ثم لا يمكن الزعم بالقدرة على تصوير الواقع». وهو نفسه ما أشار إليه «تودوروف» في كتابه Les Morales de l’histoire بعبارات أخرى؛ حيث اعتبر أن الرواية لا تقدم خطابات حول العالم، بل مجرد تأويلات؛ لأن الحقيقة غير موجودة. غير أن الروايات الواقعية الاشتراكية لم تذهب كلها في هذا المنحى، فهذا «صنع الله إبراهيم» في روايته تلك الرائحة (صدرت سنة 1967) يتنكر للواقعية الاشتراكية، ويبرز عدم جدواها عندما لاحظ أن من ينتفع بثمار السياسة الاشتراكية (التي طبقت مثلا في مصر في أعقاب ثورة يوليو 1952 على يد تنظيم الضباط الأحرار) هم مطبِّقوها فحسب، أما الشعب فلا يزال يرزح تحت نير الفقر والحرمان. من هذا المنطلق، صوَّر في روايته القصيرة - تلك - أزمة المجتمع والفرد؛ فالأول متأزم، والثاني لا يستطيع الاندماج فيه بالنظر إلى تحطم كافة طموحاته وأحلامه على صخرة الواقع الأليم. بل إنه ينخرط - إبداعيا - في طرح مجموعة من الأسئلة حول الواقع، والثورة المعاقة، والخطابات المخدرة التي تشيع روح الاستكانة والاستسلام.. لذلك أحس بعبثية الحياة ولا جدواها. وهكذا، وبغض النظر عن هذا النموذج المناهض للواقعية الاشتراكية في تاريخ تطور الرواية العربية، حاولت الرواية الواقعية الاشتراكية العربية تطوير نفسها من خلال الإيمان بدور الإنسان في الحياة، وبقدرته على صنع واقعه وتعديل مصيره؛ فانعكس كل ذلك على الأبنية السردية لتلك الروايات، فجاءت طافحة بالرمز والتاريخ وتعدد الأصوات، لقد كانت تريد أن تكون ناطقة باسم الشعب العربي ومطالبه بغية الرقي المجتمعي، وبلوغ السعادة في الحياة، وإذا كانت الواقعية الاشتراكية قد طَبَعَت عددا كبيرا من الأعمال الروائية في هذه المرحلة، فإن ظروف الحقبة ستمهد لظهور نوع آخر من الإبداع الروائي؛ هو «الرواية الجديدة». أستاذ مُبَرَّز في اللغة العربية «المغرب» صنع الله إبراهيم نبيل موميد*
مشاركة :