قبل أيام قلائل وفي سياق اهتماماتي البحثيّة بالرجوع إلى المصادر التأسيسيّة الثقافيّة الكبرى في الأدب العربيّ الكلاسيكيّ لفتت انتباهي الحاشية التي علّق بها عبدالقادر بن عمر البغداديّ في كتابه «خزانة الأدب ولبّ لسان العرب» على أبيات لشاعر عربيّ قديم من طبقة الشعراء المعمِّرين هو النابغة الجعديّ الذي أرَّخ لتاريخ ميلاده بزمن «الخُنان»؛ و«الخُنان» كما يذكر البغداديّ هو مرضُ أصاب الناس في أنوفهم وحلوقهم، وربَّما أخذ النَعَم، وربَّما قتل. وهو زُكام الإبل، وزمن الخُنان كان في عهد الملك الجاهليّ المنذر بن ماء السماء، وماتت الإبل منه وأرَّخت العرب به، وأحالت إليه من شدة الوباء الذي أصابهم. وهذه الحاشية المهمة هي واحدة من آلاف الحواشي والتعليقات في تواريخ الأوبئة وغيرها من التواريخ الثقافيّة الاستثنائيّة التي شكّلت مسارات فارقة، وهي تحتاج إلى متلقٍ يتوفّر على قدر كبير من الأناة والصبر في اقتطاع ساعات طويلة من زمنه، وتحتاج كذلك إلى باحث يدرك بعمق أهمية هذه الخطابات الثقافيّة الكبرى ((Cultural Discourses التي شكّلت متونًا ومدوّنات ضخمة جدا (corpus) في الثقافة العربيّة. ولعقود طويلة حالت القراءات التجزيئيّة المتشظيّة دون إنتاج تأويلات عميقة تغوص في إنتاج الخطابات الثقافيّة العربيّة وتفكّكها وتعيد قراءتها. لقد أنتجت مثل هذه التأويلات التجزيئيّة فكرًا متشظيًا يؤمن بالجزء ولا ينظر إلى الأبنية النسقيّة الكبرى التي أنتجت هذه الخطابات. إنَّ قلة من الدراسات النقدية المعاصرة هي التي تصدر عن مثل هذه التكوينات الكليّة. نحن بحاجة إلى أطالس ثقافيّة أدبيّة تربط الظواهر العربيّة الكلاسيكية والمعاصرة بمحيطها الكوني الثقافي الأكبر؛ وهذا لا ينفي خصوصيتها الثقافية. لماذا ندرس الأدب العربيّ قديمه وحديثه معزولاً عن خطاباته الثقافيّة الكبرى التي أنتجته، ولا تزال فاعلة ومؤثِّرة فيه؟! مئات الآلاف من صفحات مدوّنات عربيّة ضخمة تحتاج إلى إعادة قراءة وإعادة استنطاق بحثًا عن محركاتها النسقيّة الثقافيّة التي هي جزء من «العقل العربيّ» مهما كان اختلافنا الإشكاليّ مع هذا المصطلح! ألف عام من إنتاج المقامات العربيّة، وألف عام من المحاكاة الإبداعيّة، ومن الشروح؛ فما علاقة المقامات العربية بالشخصية العربيّة؟ وما علاقة المدوّنات الكبرى بها؟ نحتاج بالفعل إلى أطالس ثقافيّة عربيّة تربط الظواهر بأزمنها وفضاءاتها، ونحتاج كذلك في مراكز الرصد الاستراتيجي ودراسة المستقبليات إلى أن نفهم بعمق مثل هذه النصوص المهمة؛ فكما يحتاج المحلّل السياسيّ الاستراتيجيّ إلى التاريخ وعلوم الاقتصاد والسياسة يحتاج كذلك إلى استنطاق هذه المتون والمدوّنات التي هي مكوَّن أساسي من «العقل السياسيّ العربيّ» المعاصر. أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك- كلية الآداب - جامعة البحرين
مشاركة :