سـرديـات: في المصادر التأسيسية الكبرى... الـحـاجـة إلـى اسـتـنـطـاق مغاير!

  • 7/17/2021
  • 09:18
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

قبل‭ ‬أيام‭ ‬قلائل‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬اهتماماتي‭ ‬البحثيّة‭ ‬بالرجوع‭ ‬إلى‭ ‬المصادر‭ ‬التأسيسيّة‭ ‬الثقافيّة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربيّ‭ ‬الكلاسيكيّ‭ ‬لفتت‭ ‬انتباهي‭ ‬الحاشية‭ ‬التي‭ ‬علّق‭ ‬بها‭ ‬عبدالقادر‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ ‬البغداديّ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬خزانة‭ ‬الأدب‭ ‬ولبّ‭ ‬لسان‭ ‬العرب‮»‬‭ ‬على‭ ‬أبيات‭ ‬لشاعر‭ ‬عربيّ‭ ‬قديم‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬الشعراء‭ ‬المعمِّرين‭ ‬هو‭ ‬النابغة‭ ‬الجعديّ‭ ‬الذي‭ ‬أرَّخ‭ ‬لتاريخ‭ ‬ميلاده‭ ‬بزمن‭ ‬‮«‬الخُنان»؛‭ ‬و«الخُنان‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬البغداديّ‭ ‬هو‭ ‬مرضُ‭ ‬أصاب‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬أنوفهم‭ ‬وحلوقهم،‭ ‬وربَّما‭ ‬أخذ‭ ‬النَعَم،‭ ‬وربَّما‭ ‬قتل‭. ‬وهو‭ ‬زُكام‭ ‬الإبل،‭ ‬وزمن‭ ‬الخُنان‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الملك‭ ‬الجاهليّ‭ ‬المنذر‭ ‬بن‭ ‬ماء‭ ‬السماء،‭ ‬وماتت‭ ‬الإبل‭ ‬منه‭ ‬وأرَّخت‭ ‬العرب‭ ‬به،‭ ‬وأحالت‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الوباء‭ ‬الذي‭ ‬أصابهم‭. ‬وهذه‭ ‬الحاشية‭ ‬المهمة‭ ‬هي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬آلاف‭ ‬الحواشي‭ ‬والتعليقات‭ ‬في‭ ‬تواريخ‭ ‬الأوبئة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬التواريخ‭ ‬الثقافيّة‭ ‬الاستثنائيّة‭ ‬التي‭ ‬شكّلت‭ ‬مسارات‭ ‬فارقة،‭ ‬وهي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬متلقٍ‭ ‬يتوفّر‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأناة‭ ‬والصبر‭ ‬في‭ ‬اقتطاع‭ ‬ساعات‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬زمنه،‭ ‬وتحتاج‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬باحث‭ ‬يدرك‭ ‬بعمق‭ ‬أهمية‭ ‬هذه‭ ‬الخطابات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬الكبرى‭ ((‬Cultural‭ ‬Discourses‭ ‬التي‭ ‬شكّلت‭ ‬متونًا‭ ‬ومدوّنات‭ ‬ضخمة‭ ‬جدا‭ (‬corpus‭) ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربيّة‭.‬ ولعقود‭ ‬طويلة‭ ‬حالت‭ ‬القراءات‭ ‬التجزيئيّة‭ ‬المتشظيّة‭ ‬دون‭ ‬إنتاج‭ ‬تأويلات‭ ‬عميقة‭ ‬تغوص‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬الخطابات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬العربيّة‭ ‬وتفكّكها‭ ‬وتعيد‭ ‬قراءتها‭. ‬لقد‭ ‬أنتجت‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التأويلات‭ ‬التجزيئيّة‭ ‬فكرًا‭ ‬متشظيًا‭ ‬يؤمن‭ ‬بالجزء‭ ‬ولا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الأبنية‭ ‬النسقيّة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أنتجت‭ ‬هذه‭ ‬الخطابات‭. ‬إنَّ‭ ‬قلة‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬المعاصرة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التكوينات‭ ‬الكليّة‭.‬ نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أطالس‭ ‬ثقافيّة‭ ‬أدبيّة‭ ‬تربط‭ ‬الظواهر‭ ‬العربيّة‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬والمعاصرة‭ ‬بمحيطها‭ ‬الكوني‭ ‬الثقافي‭ ‬الأكبر؛‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬خصوصيتها‭ ‬الثقافية‭. ‬لماذا‭ ‬ندرس‭ ‬الأدب‭ ‬العربيّ‭ ‬قديمه‭ ‬وحديثه‭ ‬معزولاً‭ ‬عن‭ ‬خطاباته‭ ‬الثقافيّة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أنتجته،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬فاعلة‭ ‬ومؤثِّرة‭ ‬فيه؟‭! ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬صفحات‭ ‬مدوّنات‭ ‬عربيّة‭ ‬ضخمة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬وإعادة‭ ‬استنطاق‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬محركاتها‭ ‬النسقيّة‭ ‬الثقافيّة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬‮«‬العقل‭ ‬العربيّ‮»‬‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬اختلافنا‭ ‬الإشكاليّ‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭! ‬ألف‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬المقامات‭ ‬العربيّة،‭ ‬وألف‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬المحاكاة‭ ‬الإبداعيّة،‭ ‬ومن‭ ‬الشروح؛‭ ‬فما‭ ‬علاقة‭ ‬المقامات‭ ‬العربية‭ ‬بالشخصية‭ ‬العربيّة؟‭ ‬وما‭ ‬علاقة‭ ‬المدوّنات‭ ‬الكبرى‭ ‬بها؟‭ ‬نحتاج‭ ‬بالفعل‭ ‬إلى‭ ‬أطالس‭ ‬ثقافيّة‭ ‬عربيّة‭ ‬تربط‭ ‬الظواهر‭ ‬بأزمنها‭ ‬وفضاءاتها،‭ ‬ونحتاج‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬مراكز‭ ‬الرصد‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬ودراسة‭ ‬المستقبليات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬بعمق‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬المهمة؛‭ ‬فكما‭ ‬يحتاج‭ ‬المحلّل‭ ‬السياسيّ‭ ‬الاستراتيجيّ‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬وعلوم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والسياسة‭ ‬يحتاج‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬استنطاق‭ ‬هذه‭ ‬المتون‭ ‬والمدوّنات‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬مكوَّن‭ ‬أساسي‭ ‬من‭ ‬‮«‬العقل‭ ‬السياسيّ‭ ‬العربيّ‮»‬‭ ‬المعاصر‭.‬ أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك‭- ‬كلية‭ ‬الآداب‭ - ‬جامعة‭ ‬البحرين

مشاركة :