عجيب تفكير البعض منا في أصول الإدارة وسياساتها العامة والخاصة. بارعون لحد الجرأة بانتقاد المنظمات الأخرى، ومتحفظون لدرجة الغضب عندما نسمع أي انتقاد يوجه لمنظماتنا. كثير منا أسارى لثنائية «الموضوعية والذاتية» التي بلورها « رينيه ديكارت 1596-1650» فعندما نستحضر شؤون الآخرين نتناولها بموضوعية شديدة لا تخلو في كثير من الأحيان من هجائية مُقذِعَة. وعندما يكون الحديث عن الشؤون التي تقع في إطار مسؤولياتنا فإننا نتحدث عنها بذاتية دفاعية حادة، وبمبالغة ومفرطة، هذا من جانب. ومن جانب آخر ننتظر من المنظمات الأخرى التعاون معنا بل نعتب عليهم إن لم يفعلوا ذلك، وعندما يُطلب منا التعاون تجدنا نتلكأ عن التجاوب مع شركائنا في التنمية، تحت مبررات واهية أقواها أوهى من خيط العنكبوت. بل الأعجب من هذا وذاك أن جميع الممارسات الآنف ذكرها نعيها وعيًا تامًا ونحفظها عن ظهر قلب، بل نتشدق بترديدها في مجالسنا العامة والخاصة من خلال عقلنا الجمعي، ولكن الأدهى والأمر أننا لا نشعر – كأفراد - أننا مصابون بها. وهذه - لعمري - متلازمة التفرد المشؤومة، فكل منا – دون استثناء وبفطرة بشرية مستحكمة - يدعي الموضوعية المتجردة والطهرانية السمحة، ويعتبر نفسه حالة فريدة تحمل مشاعر إنسانية عالية، وتكتنز أحاسيس ملائكية نبيلة، وقد يتوهم – البعض - أنه يعيش في وسط أجواءٍ موبوءةٍ بالحسد، ويسبح في عالم غارق بالكراهية، ويركض في صحراء موحشة إن لم يكن فيها ذئبًا أكلته الذئاب. فهل نحن ندير أعمالنا، وندبر شؤوننا بوحي من ثقافتنا الصحراوية؟ من المؤكد أن المجتمع ليس عالمًا فاضلًا، لكنه بكل تأكيد ليس مستنقعًا مليئًا بالسلاحف المفترسة، ولا مغارةً ملقمةً بالثعابين السامة. ولا كهفًا مسكونًا بالأرواح الشريرة. في الأخير لا يسعني إلا أن أنظر إلى النصف الممتلئ من الكاس، فهناك فُرْسان مروا على قطاع الإدارة، ومنهم من لا يزال يعدو فيها. يشعرون في قرارة أنفسهم أنهم أكبر من الكراسي التي يتكؤون عليها، فقادوا منظماتهم بمهنية عالية وأنجزوا مهامهم باحترافية حاذقة، وتعاملوا مع عملائهم بمسؤولية كبيرة، مدركين ضرورة التتابع المهني، ومستشعرين أهمية التراكم المعرفي، فحققوا نتائج باهرة بعد ما استثمروا جهود من سبقوهم وطوروها، وأضافوا إليها وعظموا مخرجاتها. زرت أحد أولئك الرائعين لتهنئته بالثقة التي منحت إياه، وأثناء الحديث معه أخرج من درج مكتبه خطابًا مطبوعًا وموقعًا منه، موجهًا إلى مرجعه - لكنه غير مؤرخ - يتضمن استقالته. فسألته لماذا هكذا يا فلان؟ فقال (آليت على نفسي أن أترك الوظيفة متى ما وجدتني غير قادر على انجاز المهام والمسؤوليات الملقاة على عاتقي والمنتظرة مني. فهذه أمانة عظيمة، ولا أود أن أجهل فأظلم نفسي بحمل الأمانة الثقيلة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها). وبالفعل بعد أربع سنوات من التفكير السليم، والتخطيط الناضج، والعمل الجاد - بلا شبق إعلامي وبدون نرجسية طاغية - رأت استقالته النور وخرج من مكتبه في وضح النهار - منتصب القامة يمشي - بعد أن حقق إنجازات مثمرة، لا يزال ذاك القطاع – المحظوظ - يغرف من مَرَقِها المتبل الدسٍم. ولا شك أن مثل هذا الرجل كُثُر في مجتمعنا العزيز. يديرون منظماتهم برؤية واضحة، ويتعاملون مع عملائهم بموضوعية رشيدة (هم أولو الأحلام والنهى، لا يشقى بهم جليسهم) ولولا توفيق الله تعالى وهمة هؤلاء الرجال لم يصل قطاع الإدارة في مملكتنا الغالية إلى ما وصل إليه من تقدم ورقي وازدهار.
مشاركة :