«ديوان العرب» بين إشكالية المعنى وانزياح المكانة

  • 9/4/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يثير واقع الشعر أسئلةً متعددة.. أيثيرها حقًا؟ من يرمي ببصره على جثة الشعر المسجاة في ناووس قديم؟ أأضحى الشعر جثةٍ منسية في هذا الناووس العتيق، ويكاد ينسى؟ ما الشعر أصلاً؟ ما واقعه في ظل بروز الفن الروائي الذي سرق ضوءه، ويكاد يتفرد به بين قراء جيلٍ جديد؟ ما معنه، وجدواه، وقيمته، واشتراطاته؟ لنفتح نافذةً على الغامض الذي يضعه شاعر كبير كقاسم حداد، في قبالة غامضٍ آخر، لنتفحص جوانب تتعلق بهذا الغامض، متسائلين حول ماهيته، لنحاول استقصاء تعريف، ليس للشعر نفسه، بوصفهِ فنًا يعرف لطلبة يدرسون الآداب، إنما للولوج إلى دواخل فهم من يكتبه أو يقرأه نقدًا، فهذه التعاريف هي ما يروها، دون أن يحاولوا فرضها على الآخرين.. هي جزءهم من كلهم الواعي الذي يريد أن يدرك الأشياء، ليعايشها خيالاً؛ فكرًا ومعرفةً.. وواقعًا؛ كتابةً وتطبيقًا. ثم لذهب نحو قول يتواتر اليوم، وهو القول إن «الرواية هي ديوان العرب»، مزيحةً الشعر الذي كان، إلى حيث الهامش، في ثقافة لطالما ارتكنت لهذا الفن ليعبر عنها بكل تجلياتها، ونسأل عن واقعية هذا القول كما يراه الراؤون، ثم لنقف عند المعنى، أحقيقٌ به أن يكون؟ أينبغي أن نطارد المعنى في القول الشعري؟ فلطالما مازحني بعض الزملاء بوصفي صحفيًا ثقافيًا، بقولهم: ما هذا الهراء الذي تكتب عنه؟ يقول شاعر، وينسبون القول لقاسم حداد! «إني أتنفس سفينة». يتنفس سفينة؟ -يتهكمون!- ماذا يريد أن يقول؟ ولست أعلم صحة نسب القول لحداد، لكنه تهكم نابعٌ عن بساطة متيقنةً بضرورة المعنى، نافرةً من حداثة شعرية قد ترى المعنى أعمق من القول البسيط.. فماذا يقول الشعراء والنقاد في المعنى؟ أما قاسم نفسه فيكتب في إحدى مقالاته «أعجب من الذين ما زالوا يعتقدون بضرورة بروز المعنى المنطقي في النص الشعري»، ولست أحسم القول هنا باقتباس قاسم، إنما هو الفاتحة لما سيأتي في جزئية المعنى. - عن واقع الشعر «عصفور يغرد في صخرة» لا ينفصل واقع الشعر عن واقع الشعراء، كتب التربوي عبد الحميد المحادين في العام (1962) لقاسم حداد، تعليقًا على أولى مخطوطاته الشعرية المبكرة، محذرًا بأن «الشاعر في الشرق عصفور يغرد في صخرة». فهل يدل ذلك على إن واقع الشعر واقع مأزومٌ منذ مطلع ستينات القرن الماضي؟ آنذاك، لا يزال السياب، ونازك الملائكة، وأدونيس، وبلند الحيدري، ونزار قباني، وصلاح عبدالصبور، ومحمود درويش، والكثير الكثير.. فعن أي تأزم نتحدث؟ لكن لم يكن المحادين ليفصح بذلك عبثًا. ولكن ماذا عن اليوم؟ يقر الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين إننا في زمن «غير شعري»، أضحت فيه «القصيدة ميتة، والشعراء متسكعون على هوامش المدن والمنافي، ولاجئون إلى الشبكة العنكبوتية»، فيما يؤكد الشاعر المصري مصطفى حجازي أن الشعر «لم يعد يحتل في هذه الأيام المكان الذي كان يحتله من قبل»، ورغم إقراره، يتساءل: «هل نسلم بأن الشعر مات، وبأنه لم يعد ضرورة، ولم يعد مطلبًا؟». بالطبع لن يسلم شاعرًا كحجازي بذلك، ولا ناقدًا كالمغربي، عبداللطيف الوراري، الذي يتحفظ على اعتقاد الكثيرين، ومنهم شعراء بأن «زمن الشعر ولّى، وأن الوظائف التقليدية التي ارتبطت به وتقول بخلاص الكائن صارت مضحكة، وأن قوله بات ضربًا من العبث، وأن جماله يائس لا طائل منه». الشاعر اللبناني عباس بيضون يبديها بكل صراحةً معبرًا بأن «كلمة مأزق ليست الكلمة المثلى والأصح في توصيف حالة الشعر العربي الحديث اليوم، أظن أن الكلمة الأصح هي الانحسار، أو الضيق، أو التراجع. فالشعر عالميًا هو في هذا الوضع المناسب، وأظن أن الشعر العربي يلحق بهذا الوضع الذي بدأ في الغرب»، فيما يعلل الأديب والأكاديمي المصري محمد عبدالمطلب هذا الانحسار بتبيان أسبابه، المتمثلين في منافسين لم يشهدهم الشعر طوال تاريخه، إذ «استحوذوا على بعض من تقنيات الشعر الروحية والجمالية؛ لذا فقد انحسر الواقع العام عن تلقي الشعر»، لكنه ليس انحسارًا تامًا، فلم يحدث هذا الإنحسار في الواقع الأدبي كما يعتقد، و«يدلنا على ذلك أن الشعراء يتزايدون»، فيما لا يرى بيضون في هذه التزايد دلالة، قائلاً: «الشعر الآن هو فن بين أشباه شعراء، وهذا لا يمنع أن الشعراء يتكاثرون». نعود للناقد الوراري، فرغم كل ذلك، يؤكد «لا يزال ثمة ما يعزز اقتناعنا بقيمة الشعر وضرورته، وإن في عالم صار يقل فيه ضوء الشعر، وتقل معه فرص الحياة الجميلة والمحلوم بها على حواف عالم ما برح يغرق في ماديته الشرهة؛ لأنّ ثمة ما يدعونا للكشف والخلق والحوار وتبادل حر للأفكار والأحلام عن طريق الكلمة، بقدرما ما يدعونا إلى التأمل في مكامن قوّة اللغة وإلى الإصغاء لتفتح الملكات الإبداعية لكل الذوات وهي تبتهج وتتوهج في الشعر وبه»، وهذا ما سنتفحصه في آراء من استطلعناهم من شعراء ونقاد. - في تعريف الشعر «ضربُ من متعة الروح» في يوم قال أدونيس في حوار معه إن القصيدة «تعيد ربطنا بالطبيعة. هي وردة بلا سلاح. عطرها سلاحها. القصيدة كالحب، تمنحنا فرصة أن نرى العالم على نحو مختلف»، فما الشعر؟ وما القصيدة؟ نقف عند قول يقول فيه حداد بأن «الشعر هو ضربٌ من متعة الروح والعاطفة أكثر منه خدمةً للعقل والمعرفة العلمية».. والآن لننتقل لمن استطلعناهم، متفحصين رؤاهم للشعر، تعريفًا ومفهومًا: يرى الشاعر علي عبدالله خليفة أن الشعر «أحد فنون التعبير الإنساني الراقي الأكثر اتصالاً بالموسيقى، والتشكيل، والتصوير، واختزال المعنى»، وبالتالي فإنه قائم على «الإيحاء، والتداعي، واستدعاء مخزون الذاكرة»، مؤكدًا أنه يستدعي «موهبة إلهية أصيلة»، إذ يشترط خليفة ليكون الشعر شعرًا «لا بد لذائقة فنية من تلقيه، وأن يحرك لديها المشاعر، ويستفز الأسئلة، ويكون قريبًا من القلب»، فهذهِ الرؤية للشعر، ستحدد ما يستدعيه المعنى، في جزئية الحديث عن المعنى في الشعر، كما يراه الشاعر خليفة. أما الشاعرة فاطمة التيتون فتركن في تعريفها للتعريف المتعارف عليه: «تجربة إنسانية مكتوبة بلغة تصويرية مموسقة»، لتتخذ منه مدخلاً لتعريفها الخاص للشعر، بوصفه «تعبيرًا عن تجارب إنسانية عميقة، يمر بها الشاعر، فتتدفق من نفسه الشفافة، عاكسة حالة المجتمع الذي ينتمي إليه، والعصر الذي يعيشه»، وهي بذلك، ترى في الشعر بساطةً تتمثل في كونه: «تعبيرًا عن المعاني الإنسانية النبيلة، من فرح وألم، وعشق، واغتراب...». فيما يتعمق الناقد جعفر حسن، بشكل مستفيض -يستعصي ذكره مجملاً هنا لهذا سنفرد له مساحةً في وقت لاحق، نستعرض فيها حوارنا المفصل معه- مجتزئين منه قوله: «كلما ذهبنا في مسيرة الشعر والنقد، كلما ظهرت لنا مشكلات في التعريف لا تكاد تنتهي»، مؤكدًا بأن التعاريف التي حاولت تعريف ماهية الشعر، لدى القدماء، كابن قدامة، والمرزوقي، وابن سينا، والفارابي، لم تقبض على جوهر الشعر، ولهذا يؤكد أن ما هية الشعر، وأمر التعريف، «قابع في مساحة مازالت مجهولة لأسباب متعددة ومعقدة، منها أن الشاعر قد ورث العقل السحري للإنسان وحوله إلى عقل شعري له وظيفة مختلفة عن وظيفة ساحر القبيلة»، متابعًا «مازالت الشعرية مشغولة بأدبية الأدب في النظرية الأدبية، ومازال البحث جاريا عن مكنونات الشعر التي لا يبدو أنها يمكن أن تنفد على الرغم من إضافة الكثير من الأمور إلى الشعرية (الحدس، الرؤى، الدهشة...الخ)». ويعود الناقد والشاعر كريم رضي لأكثر من (2500) سنة، مستعرضًا الجدل بين (أرسطو) ومعلمه (أفلاطون) حول ماهية الشعر، ليؤكد أن سؤال الشعر لا يزال مطروحًا حتى اليوم، مضيفًا «من الخير لنا ألا نصل إلى إجابة عنه، لئلا نموت؛ فالجواب دائمًا فناء، والسؤال حياة»، ويستطرد منقادًا للسؤال، ليعرف الشعر بأنه «ما يراه متلقيه شعرًا.. فليس الشعر بلحاظ واعتبار منتجه، بل باعتبار متلقيه أيضًا»، وبالتالي يؤكد رضي نسبية ما يعد شعرًا، وما هو ليس كذلك: «إن أعظم القصائد في نظري قد لا تساوي شيئًا في نظر متلق آخر، كما إن أقل القصائد شأنًا بالنسبة لي، قد تأخذ بلب متلق غيري»، ويستعين على تمثيل ذلك بأبيات لبشار بن برد، قالها في خادمته: «ربابة ربة البيت، تصب الخل في الزيت /‏‏ لها سبع دجاجات، وديكٌ حسن الصوت»، مضيفًا بأن هذه الأبيات، قد تشكل «افتتانًا أكثر منه بمعلقة امرؤ القيس (قفا نبكِ)»، موضحًا «أننا حتى في أكثر صور تعريف الشعر تقليدية، لم نعد نتكئ حصرًا على تعريف قدامة بن جعفر، بأن الشعر: (قول موزون مقفى يدل على معنى)»، فهذا التعريف كما يؤكد كريم «هجر على نطاق واسع إلى غير رجعة». أما الشاعرة إيمان أسيري فتؤكد أن الشعر رديف للحياة، إذ إن الإنسان شاعر بطبيعته وملازمٌ للشعرية، فـ «منذ الولادة يتشرب الإنسان المعاني بالإحاسيس؛ في حضن الأم، وصوتها نتعرف على الشعر، ولهذا فالشعر ذائقة لا تضمحل لدى البشر، إنما تختلف درجاتها»، مبينةً أننا «نعيش الشعر، من التهويدة الأولى فرحًا بوجودنا، إلى مواويل الندب على مغادرتنا الحياة». لكن كيف لنا أن نصل إلى جوهر ما يسمى شعرًا؟ توضح أسيري «أن نكتب الحياة؛ بمعنى أن يكون لما تكتب معنى، وفكرة يبنى عليها النص، ولها علاقة بذاتك، ومجتمعك، ووجودك في هذا العالم»، وما دون ذلك تراه أسيري «ابتعادًا عن جوهر الشعر». - إشكالية البحث عن المعنى في الحديث عن المعنى، كنتُ قد سألتُ المستطلعة آراءهم عما إذا أضحت بعضُ القصائد اليوم تفتقر للمعنى، ولا تعدو عن كونها كلمات منسقة، يلفها الغموض، وللامنطقية أحياناً. وبانعدام المعنى، ينعدمُ المضمون... هذا ما يراهُ بعضُ قراء الشعر، الذين لا يجدون أي معنىٍ في العديد من القصائد المكتوبة حديثاً، أو التي انتهجت منهجاً حداثياً. وقبل أن نتفحص آرائهم، نعودُ لقاسم حداد، الذي يؤكد بأن «الشعر ضرب من العواطف، وليس طريقة للعمل العقلي»، ومن هذا المنطلق، كما كتب في إحدى مقالاته، يتعجبُ «من الذين ما زالوا يعتقدون بضرورة بروز المعنى المنطقي في النص الشعري. والذين لا يجدون في الشعر الجديد شرطاً يستجيب لمتطلباتهم، فيحكمون على هذا الشعر بالنفي والإلغاء. كما لو أن على الشعر أن يقوم بأداء الوظائف التي ينبغي أن يؤديها نوع مختلف من الكتابة». لهذا يرفضُ قاسم هذا الهوسُ بالمعنى، مستشهداً بقصةٍ يرويها عن الجاحظ، حين سأل شخصُ عن المعنى في الشعر، «فرد عليه الجاحظ قائلاً: أي معنى أيها المخبول، هل للشعر معنى، إنه شعر فحسب»، ويتابع قاسم في إعادة صياغته لقصة الجاحظ مع الباحث عن معنى، إذ يتممُ الجاحظ قائلاً: «إن وجوده (الشعر) هو المعنى الذي تراه أنت فيه. ليس لدى الشاعر معنى يتجاوز معناك. عليك أن تبحث في نفسك عن المعنى». لهذا يرى حداد بأن الذين يأتون الشعر مستنفرين قواهم العقلية «إنما هم يستعدون لإفساد متعة الخيال والحلم. فالرياضيات البحتة ليست من صفات الشعر، وجلافة الذهن لا تستقيم مع جمال الأحلام». وهو تماماً ما يذهبُ إليه الناقد الوراري، بقوله «إن المعنى لا وجود سابقاً له في النص، وقبل تلقيه بالذات. فالمعنى ليس شيئاً معطى يستخرج من النص، بل يتمُ تجميعه من إيحاءات نصية، أو بالأحرى يُبنى بواسطة استراتيجيات القراءة والتأويل». ولنذهب في مديات القراءة والتأويل، لنفهم رأي كريم رضي، وهو يتحدث عن المعنى في الشعر، فقبل إن يفصح عن ما سيقول، يقدمُ ذلك بديباجةٍ يرى بأنها تعكس الواقع الحالي، يقول: «نحنُ في مجتمعٍ يعيش الإرهاب الفكري، والوجداني، والجسدي من سلطاتٍ عديدة؛ سلطة السياسة، والثقافة، والمجتمع، والمؤسسة، والجنس، والدين، والأخلاق، والمال، والعائلة.. وسلطة القبيلة، والطبقة، والطائفة»، ثم ماذا؟ يتابعُ كريم، كمن ينفجرُ غيضاً في وجه مقابله، «هذا الذي يُرى بأنهُ هذرُ بلا معنى.. ربما يحتاجُ لناقدٍ يتوقف أمامه، باحثاً عن مدياتهِ وأسبابه»، ومن هنا نفهم، ديباجة كريم عن السلطات، وتابوهاتها التي لا تقتصرُ على وضع الحدود، بل تذهبُ لأبعد المديات، يقول كريم، بعد إن يطالب الناقد بالتوقف للنظر في الأسباب، «لعلنا نعثرُ هنا، على ألسن مقطوعة، وأكف مجذوذة، وأنامل مبتورة، لا تستطيع إكمال العبارة..»، أو بمعنى أوضح، لم تستطع إكمال شعرٍ ذي معنىً، في ظل كل هذا الإرهاب والخوف. ويتابعُ كريم «طالما كانت الحرية غير متاحةٍ لمن يسمى (مجنوناً) إن جاهر بجنونه، فلا تسألني عن غامض المعاني، وتافه الكلام»، مردفاً «لنعطِ للناس الحرية أولاً، دون قيدٍ أو شرط، ثم لنطالب بكمال المعنى، فدون الحرية، لا توجد عدالة في إدانة المعاني الناقصة، ولعل تكملتها حبيسة الصدور المرضوضة، والعقول المصادرة، والأفواه المكممة بوباء الأرهاب الفكري». ومن هذا الرأي الذي يُحملُ الواقع عبء المعنى، إلى رأيٍ يرى في البحث عن المعنى في الشعر، بحثُ عما هو مألوف، وهو رأي جعفر حسن، الذي يلفتُ بأن «الشعر يشتغلُ على ربط العلاقة بين المتباعدات، ولعلنا نعرف أن البعض يشير إلى أنهُ من الإبداع ربط كملتين لم تربطا من قبل، مما يجعل طبيعة الشعر تخاطب في المتلقي مخيلته لا فهمه»، معللاً الهوس بالمعنى، بكون «الفرد يجدُ نفسه مجبراً على البحث عن المعنى المتعود عليه في حياته اليومية، وذلك أن التجربة اليومية للفرد تشير إلى الفهم، بينما يُبنى الشعر على التأويل بتحريك المخيلة». كذلك يشيرُ جعفر إلى مسؤولية التعليم في خلق باحث تقليدي عن المعنى، مبيناً بأن التعليم يرتكزُ على عمود الشعر، ما يرسخ «البلاغة القديمة وصورها البسيطة التي تخلت عنها الشعرية الحديثة». أما علي عبد الله خليفة، فيرى بأن مردُ إشكالية المعنى، تعودُ «لركامٍ من النتاج الكتابي الذي يطلق عليه شعراً وهو ليس كذلك»، موضحاً إن مسؤولية هذا الإسفاف «تقعُ على عاتق الصحافة، ودور النشر العربية، إلى جانب النقد الأدبي الغائب، وكل أجهزة البث، والتواصل الإلكتروني»، والتي يسرت استسهال قول الشعر، وركوب موجة هذا الفن دون معرفةٍ، لهذا يشدد خليفة، على «ضرورة التفريق بين فن إبداع الشعر، وبين الهلوسات التي تتوسل الغموض، والغريب من التراكيب اللغوية الفارغة، لتجعل من فن الشعر العظيم، مجرد أحاجيّ». مؤكداً بأن الشعر الحقيقي «سيبقى يشفي الروح ويرقى بالذائقة الفنية للإنسان». وتؤيدُ التيتون هذا الرأي، مؤكدةً بأن «هناك قصور في بعض القصائد، إذ نجدُ بأن الكثيرين أضحوا شعراء فجاءةً، وأصدروا دواوين، وهم لا يعدون عن كونهم عابرون لا يتركون أي أثر. وعند هؤلاء نجدُ الضعف في المعنى وبالتالي المضمون»، كما تجرؤ التيتون، على المتلقي، بوصفهِ قارئً فتعاتبُ ضعف ثقافته، إذ تقول: «في زمنٍ قلت القراءة فيه، أضحى هناك قصور في ثقافة المتلقي، وبالتالي، خلق ذلك حلقات مفقودة بين الكاتب والقارئ»، ولهذا ترى بأن الشعر «أضحى يكتبُ للمثقفين، ويقبل عليه أهله، وهم قلةٌ قليلة». - انزياح المكانة وهامشيتها لطالما كان «الشعر ديوان العرب»، بيد أن الرواية أزحتهُ عن عرشه، كما يقول النقاد، فما المكانة التي يتموضعُ فيها الشعر؟ أهي الهامش، نظراً لقلة مريديه ومتلقيه، وعدم اهتمامهم به، عدى في بعض صوره كالشعر الغنائي مثلاً؟ ما تأثيرُ الإنزياح في مكانة الشعر على الشعر نفسه؟ ماذا عن هذا الإنحسار الذي أشار إليه بيضون. أهو موتٌ بطيء للشعر، أم تحركُ سيعاودُ التموضوع في وضعه الأول؟ يقرُ جعفر حسن بأن الشعر تعرض لانزياح، لكنهُ يعللُ هذا الانزياح بتعليلاتٍ خارجةٍ عن المنظومة الأدبية نفسها، فالرواية استطاعت بتقديره أن تجاري السوق، وتتحول إلى سلعة، وارتبطت بالسينما والألعاب الإلكترونية، فيما الشعر يقاومُ التسليع. ويلفتُ جعفر بأن الانزياح ممكن، ولكن الطغيان غير وارد، «أننا لا نجد مثالاً واضحاً على طغيان جنسٍ أدبي على آخر، حتى يخرجه من الساحة»، مبيناً «صحيح بأننا شهدنا تغيرات في الجنس الأدبي نفسه، وشهدنا موت جنسٍ سردي كالمقامة، ولكن قلما يموت جنس أدبي بفعل جنسٍ آخر»، مستبعداً موت الشعر بسبب الرواية، فـ «تحولات الجنس الأدبي، وتحجره، هي التي تبقيه بعيداً عن الساحة، ولعلها تفرض موته إذا لم يلبي الحاجات الجمالية للفرد في داخل المنظومة الثقافية». تتفقُ التيتون، مع ما يذهبُ إليه جعفر، مؤكدةً بأن «الشعر أضحى هامشاً بسبب تراجع الثقافة في زمن الاستهلاك»، وتضيف على ذلك جانباً آخراً، وهو تراجع الاهتمام باللغة العربية، «صار العربي يسخر من لغته، ويتجاهلها إلى أبعد الحدود، وأصبح يتفاخر باللغات الأجنبية، فيما غزت العامية كافة المجالات، من وسائل التواصل الاجتماعية، إلى وسائل الإعلام، والإعلانات.. بل أضحى مدرس اللغة الفصيحة، ليس فصيحاً، وبذلك أضحت هناك قطيعة بين الأجيال الجديدة وبين لغتها، فكيف سيتذوق الشعر وجمالياته؟». فيما يؤكد علي عبد الله خليفة، بأن الشعر «حيٌ ولهُ جمهوره، إلا أن زماننا هذا حول الأشياء من حولنا إلى (بلاستيك)، ونشارة خشب، فما عاد الإنسان يميز ما حوله، وهذا ما يبرر الخطأ في الحكم على الشعر، وعلى أغلب الأشياء»، معللاً، بأن زمننا هذا «ليس بزمن الرواية، ولا هو زمن الشعر، ولا أي فنٍ من فنون القول.. إنما هو زمن (الواتسآب)، ووسائل التواصل الاجتماعية». ويلفت خليفة بأن الشعر، «ومنذُ أزمانٍ خبا لدى من ليس لهم ذائقة إنسانية مرهفة، ومن يفتقرون لرقة المشاعر». أما إيمان أسيري، فلها رؤيةُ مقاربة لما لبيضون في حديثه عن انحسار الشعر، فما نشهدهُ من انحسارٍ للشعر على مستوى الثقافة العربية، هو ظاهرةٌ عالمية، تردها أسيري لكون «الرواية، تعكس الحياة من حولك»، وهنا تشيرُ أسيري لدور السينما والتلفاز في جعل الرواية سياقاً عاماً، لكنها تؤكد بأن انزياح الشعر عن مكانته، لا ينطبق على كل السياقات «فما الأغاني في جوهرها إلا شعراً، وهي سياقُ طاغٍ وما زال»، مضيفةً «للشعر حضورهُ الأكبر من الرواية في عددٍ من المواضع، حتى وإن انحسر على مستوى المقروئية». أما كريم، فيردُ مكمنُ الانزياح في المكانة، لمرد الصراع على الملحمة «منذُ جلجامش والإلياذة وغيرها من الملاحم الأغريقية والشرقية، وصولاً لملحمة الزير سالم، وكربلاء.. كانت الحكاية أو القص وظيفة الشعر. وإذ تخلى الشعر عن الملحمة لأسباب تتعلق بالحرية، حيثُ بدا أن النمط الملحمي فيه تقييد للشعر في بنية الإيقاع والمضمون، فهنا حلت الرواية محل الشعر»، مضيفاً «ليس صحيحاً بأن الرواية أخذت من الشعر كل حقوله، فالرواية هي ملحمة الإنسان المعاصر، وهي التي جعلت لكل فردٍ ملحمته الخاصة في عصر غياب الملاحم الكبرى، أما بقية حقول الشعر، خاصة الغناء منه، فمن ذا الذي ينازع الشعر فيه؟». ويبين كريم بأن الشعر اليوم، لم يعد يكتفي بكونهِ شعراً مجرداً «بل دخل على جانب الحفريات الثقافية، والتاريخية، ممتزجاً مع السرد والتاريخ، وحتى النقد الثقافي.. كما فعل قاسم حداد في سيرة طرفة بن العبد، وقيس بن الملوح، وكما فعل حسين السماهيجي في حفريات هوامش أبي طاهر القرمطي، وحفريات أدونيس في مصارع الأمم ومهالكها، وحفريات الشاعر عبد الله زهير في سيرة ونص عمر الخيام... إذاً نحنُ الأن نشهد الشعر بوصفه معرفة أيضاً»، ولهذا لا يرى كريم بأن الرواية قادرةً على قتل الشعر، «ما يزال الشعر يعدنا بالكثير من الهدايا غير المتوقعة».

مشاركة :