عبد اللطيف الزبيدي المصطلحات كالأسهم لها صعود ونزول. من دون مبرّرات واضحة، اختفى الحديث في أوروبا الغربية عن التقدّم عقوداً. في سني الاتحاد السوفييتيّ السبعين، كان التقدّم سيّد المصطلحات في جميع أنحاء العالم. حتى البلدان التي لم تكن تتقدم قيد أنملة، بل تتقهقر، كانت تتقدم إلى الوراء بالتقدّمية. حين سقط السوفييت، توارى مصطلح التقدّم. أصبحت أوروبا منذ ثلاثة عقود تؤثر مصطلح ابتكار (إنّوفيشن - إنوّفاسيون). هنا نجد أن المعاجم لا تُعجم ولا تعرب، قياساً على قول الساخرين: المنجد لا يُنجد. جديد المصطلحات يحتاج إلى قواميس تتجدّد مع تطوّر المعاني. الابتكار في الإنجليزية والفرنسية مأخوذ من الفعل اللاتينيّ إنوّفاري، أي العودة إلى، فالمفهوم هو الرجوع إلى البداية من جديد، ما يعطينا عكس المراد تقريباً. الطريف هو أن اللغويّين في فرنسا تندّروا مؤخراً بتقرير اللجنة الأوروبية، الذي جاء في ستين صفحة، ذكرت فيها كلمة ابتكار (إنوّفاسيون) أكثر من ثلاثمئة مرّة، من دون أن يفسّر المقصود من المصطلح، فالمعاني متعدّدة: الاختراع، التجديد، التطوير، الإبداع، التحديث، التحسين، ولكون هذه المفردات لها معانٍ مختلفة، وإن تشابهت أو تقاربت، فقد صار بعض العرب يستخدمون، ما هو أشدّ غموضاً، المتمثل في كلمة إنّوفاتيّة أو التطوير الإنّوفاتيّ، المنتجات الإنّوفاتية، الأساليب الإنّوفاتية. في العربية نجد أن الفعل الثلاثيّ المزيد بالألف والتاء لا يختلف كثيراً عن جذره الثلاثيّ، مثل غسل واغتسل. ابتكر يعني أخذ باكورة الثمار أوّل نضوجها، ويعني هذا الحصول على شيء مكتمل أصلاً، لكن ابتكر خطبة الجمعة يعني حضورها قبل بدئها، وهو معنى مختلف تماماً، مثل فعل بكر، أي نهض وذهب مبكّراً أو باكراً. نعود من الماضي إلى عصرنا واستعمالنا الجديد، فهل الابتكار هو الانطلاق من شيء موجود نطوّره ونحسّنه، أم هو العمل على إيجاد شيء لم يكن موجوداً أصلاً. في الحالة الأولى يعني التحديث والتجديد، وفي الأخيرة يعني الاختراع والإبداع. في العقدين الأخيرين عانى المفكّرون، وحتى الإعلاميون في أوروبا، الكثير من معضلات تداخل المعاني في الإنّوفاتيّة، عندما تستخدم في التعامل مع مشكلات الشيخوخة السكانية، الحرارة المناخيّة، البطالة والهجرة. أمام هذه المعاني المختلطة، آثر الملتقى السنويّ الثالث في جامعة بو (800 كم جنوب باريس)، الذي تشارك فيه نخبة المفكّرين والعلماء الفرنسيين تحت عنوان: الأفكار تقود العالم، أن ينعقد تحت شعار التقدم، وكأنه يعود من حيث لا يدري إلى الفعل اللاتينيّ إنّوفاري، العودة إلى البداية. لزوم ما يلزم: النتيجة اللغويّة: المصطلح يدفعنا إلى الاصطلاح أي إقامة الصلح بين المعاني المختلفة في المفردة الواحدة. abuzzabaed@gmail.com
مشاركة :