تعيش أمتنا العربية والإسلامية فترة عصيبة من تاريخها، فترةً أشبَه بما مرَّ عليها أثناء غزو المغول وتدمير بغداد، وغزو الصليبيين واكتساح الشام، والعبث بمقدَّراتنا وتدمير حضارتنا العربية والإسلامية، وإنْ كان المغول قد أتونا من الشرق فقد جاءنا الغزو الجديد من الغرب كسابقه، حاملاً معه حقداً دفيناً على الإسلام وحضارته التي كانت المنارة التي أوقدت شعلة الحضارة الغربية الحديثة، وأخرجَت الغربَ من ظلمات الجهل التي كان غارقاً فيها في عصوره المظلِمة. وعُقَلاء الأمة يدركون مدى الإحباط والانكسار والتخبُّط الذي تمرُّ به أمتنا في هذه الأيام، وما قصور مؤسَّساتها المشتَرَكة مثل «جامعة الدول العربية» و»منظَّمة التعاوُن الإسلامي» وغيرهما عن تأدية واجباتها كما هي محدَّدة في مواثيقها، والإسهام في انتشال الأمة ممَّا وصلت إليه مِنْ تخبُّط وضياع، إلَّا دليلٌ على هذا الإحباط وعدم المبالاة. إنَّ انحسار دَوْر مؤسَّساتنا المشتَرَكة أمرٌ في غاية الخطورة ولا عُذْر فيه للقائمين عليها، فقد أتاح ذلك للأعداء التدخُّل في شؤونها وهم ليسوا أهلاً لعمل الخير لها، وإذا كان العاملون في مؤسَّساتنا المشتَرَكة لا يهمُّهم حال الأمة ولا الدفاع عن مصالحها فلا مكان لهم فيها. لقد تكالَبَ أعداء الأمة علينا من كلِّ جانب، وسخَّروا ضدَّنا جميع الوسائل التي ملكوا ناصيتها للتلاعُب بعقول البشر، وتوجيه تلك الوسائل نحو عقل الإنسان العربي والمسلم، مستغلِّين ضِعاف الفِكْر والنفوس منَّا، ومُثيرين بيننا الفروق الهامشية بشتَّى الوسائل، والتي جعلت من الصديق عدواً، وأوهمتْنا أنَّ العدوَّ صديق؛ ما أوقَعَ بعضاً منَّا في حبائل أعدائنا، ففَقَدَ الإنسان العربي والمسلم دَوَالَّهُ، وقدرته على التفريق بين العدوِّ والصديق. هل نحن كأمَّة نمرُّ بمرحلة ضياع بوصلة التفكير السليم فيما هو الأفضل لأمتنا وأجيالنا؟ الإجابة عن هذا السؤال هي: نعم! نحن نمرُّ بذلك، ولكنْ هل هناك ما يُشير إلى أننا سوف نفيق ممَّا نحن فيه مِنْ تخبُّط؟ وأُجيب أيضاً بنعم.. هناك إشارات!! أمتنا ولَّادة وهناك بشائر تلُوْح في الأفق. وأسُوْق في هذا الإطار حَدَثَيْن وقعا هذه الأيام، الأكبر فيهما والأهمُّ والذي هزَّ قواعد الدولة العُظمى التي أساطيلُها لا تَغِيْب عنها الشمس، والتي مَلَكَتْ نَوَاصي التقنية الحديثة والنفوذ في العالَم، أنَّ تلك الدولة هُزمتْ مِنْ قِبَل الشعب الأفغاني الذي لا يملك حتَّى إعادة تشغيل مطاره الدولي، غير أنه يملك ما هو أعمق وأكبر من كلِّ التقنيات والأسلحة التي سُلِّطَتْ عليه لمدَّة عشرين عاماً، فهو يملك إيمانَه بالله، وحقَّه في تقرير مصيره وسيادته على أرضه، وقد حقَّق الآن هذا الشعب المكافِح البطل مثل ما كان قد حقَّق في حالات سابقة، إذ هَزَمَ الإنجليز والروس مِنْ قَبْل، إنه شعبٌ مناضل، صَبُور، جدير بالتوقير والاحترام. ولكنْ يترتَّب على «طالبان» –سواءً اتفقنا مع نهجهم أو لم نتَّفق- واجب ديني وأخلاقي عليهم العمل عليه والالتزام به، ألَا وهو التبرُّؤ من تنظيم القاعدة وذيوله، ومن جميع الجماعات الإرهابية المماثِلة، فهي لم تجلب لأفغانستان إلَّا الحروب والدمار، وأضفتْ على الإسلام وأهله وعلى أفغانستان سمعةً هي ليست مِنَ الإسلام ولا مِنْ أهله في شيء، وعلى «طالبان» في المرحلة القادمة التركيز على بناء الدولة الحديثة، وجَعْل أفغانستان الدولة المسلمة الحقَّة التي تعمل لخير البشرية، دون تشدُّد أو تطرُّف، لتكون في إطار النموذج الحي للإسلام المتنوِّر، وبذلك تحوز على رضا الله والناس في جميع أنحاء العالَم، وتحقِّق بذلك قول الباري -جلَّت قدرتُه-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }، فبالحكمة والموعظة الحسنة يكون للإسلام وأهله اليد العُليا في العالَم أجمَع. هناك مَنْ يتمنَّى لإخواننا في أفغانستان تفرُّق كلمتهم وشَتَات أمرهم، ولابدَّ أنَّ الغزاة قد تركوا مِنْ أعوانهم مَنْ يعمل على ذلك، وما تصريح السيناتور «لينزي جراهام» من فرجينيا، الكاره للمسلمين والعرب، إلَّا مؤشِّرٌ على ذلك، إذ تنبَّأ بتجزئة أفغانستان وشَتَات أمرها، وأنهم -أي الأمريكان- عائدون، ندعو الله أنْ يَخِيْب أملُه وينصُر إخواننا في ذلك البلد العزيز على كلِّ مسلم. الحَدَث الآخَر هو قصَّة الهروب التي دبَّرها ونفَّذها ستَّة أبطال من إخوتنا الفلسطينيين المسجونين في أحد السجون الصهيونية، وفور سماعي للخبر تذكَّرتُ قراءاتي السابقة بهذا الشأن، وكذلك تذكَّرتُ أحد أساتذتي في جامعة أوكلاهوما وهو الدكتور «ليري مايكلسن» أستاذ السلوك الإداري، والذي جعل مِنْ ضِمْن الكتب التي لابدَّ لنا من قراءتها كتاب «الهروب الكبير» وهو كتابٌ كَتَبَه «بول بريكهيل» عن قصَّة هروب مجموعة من جنود الحلفاء من أحد السجون الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، وأُخرِجَ في فِلْم عام 1963م، وقد قَصَدَ أستاذنا من قراءتنا لذلك الكتاب إبراز أهمِّية روح الفريق وضرورة ذلك في قيادة الدول والمؤسَّسات والشركات، وتحقيق أقصى ما يمكن من إنتاجية للوصول للأهداف. تذكَّرت ما أُحيطَ بذلك الفِلْم من دعاية عن شجاعة وقدرة أولئك الرجال، وهذا يوضِّح لنا كيف أنَّ القوم يعرفون كيف يمجِّدون رجالهم من أجل بناء ذاتهم، ولكن انظروا كيف عولِجَ مثل هذا الحَدَث -وهو هروب أبطال فلسطين- في الإعلام العربي!!! وهم أبناء الشعب الذي حارَبَ الظلم والاضطهاد والجور أجيالاً وأجيالاً ولا يزال، وسينتصر كما انتصر إخوانُه في أفغانستان، إنهما شَعْبان جبَّاران. هنا أودُّ أنْ نقف وقفة تفكُّر وتدبُّر في هذَيْن الحدثَيْن، وكيف أنَّهما أَعطَيَانا الأمل في أنَّ أمَّتنا ولَّادة، وأنها لن تموت بإذن الله، وما علينا إلَّا أنْ نبدأ في العمل مجتمِعين متكاتِفين، والنصر آتٍ آتٍ إنْ شاء الله ربُّ العالمين.
مشاركة :