جيلنا (جيل الخمسينيات والستينيات وما بعدها) كان جيل الأمل بالنهوض العربي ومحاربة الاستعمار، والنظرة إلى أمة العرب على أنها أمة واحدة، تجمعها اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا..، وفوق ذلك الاعتزاز بأن العربي ينتمي إلى أمة قدمت للعالم حضارة راقية قوامها دين قويم شريعته الحق والعدل والإحسان، وقدمت للبشرية العلوم والرياضيات والطب..، كل ذلك كان لخدمة الإنسان وتطوير حياته، وأخذ الغرب تلك العلوم وارتكزت عليها حضارته الحديثة التي حولها فيما بعد إلى خدمة مصالحه المادية وظلم الشعوب. خلال نشأتنا كان معلمونا ومديرو مدارسنا من فلسطين ومصر، نشأنا ونحن نعرف أننا من اللحمة نفسها، حتى موائدنا بدأت تدخل فيها الأطباق الشامية والمصرية العراقية، وفيما بعد المغربية والتونسية، وكانت أخبار جامعة الدول العربية تملأ صفحات جرائدنا اليومية، وخطابات الملوك والرؤساء العرب كلها تدعو لوحدة الصف العربي. نقرأ الصحافة المصرية واللبنانية، ونسمع الموسيقا العربية المصرية والسورية والعراقية، والرابطة العربية كانت هي السائدة، صحيح أن الإقليمية أو القطرية كانت موجودة ولكنها ليست بالظهور الذي هي عليه الآن. واليوم يمر العالم -ووطننا العربي - بظرف خطير وأحداث جسام، وتمر أمتنا العربية والإسلامية بأزماتٍ أقلُّ ما يمكن أن توصف به هو أنها فترة تحوُّل خطيرة وكبيرة في تاريخها، فإما أن تكون أولا تكون. ونحن بالطبع جزء من هذا العالم ونتأثر بما يدور حولنا، ولكن ما يهمني أكثر هو وطني أولاً، وأمتي العربية ثانياً، ويحضُرني في هذه الأيام قول سيدنا رسول الله محمد -عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى التسليم- إذ يتحدث عن زمان قادم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها». فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن». مشاهد غزة خاصة، وفلسطين عامة، وردود أفعال الأمة العربية تجاهها، شواهد على أن ذلك القول الكريم هو قول من لا ينطق عن الهوى؛ غير أن ما يعيد الثقة والطمأنينة إلى قلوبنا هو إيماننا بالله وبوعده الصادق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، فنصره قريب إن شاء الله. شعور الإنسان بالضعف وقلة الحيلة تجاه الأحداث الجسام والمشاهد اليومية التي تنقلها قنوات البث الإعلامي، والحسرة على ما آل إليه حال الأمة، تجعله يتساءل: هل من نور في آخر النفق؟ ويأتي الجواب: نعم، جزئياً هناك أمل على مستوى الوطن في ما تقوم به المملكة العربية السعودية، وما تمتاز به قيادتها من حنكة للإبحار في وسط هذه الموجات العاتية، وما تحققه من تطور وتقدم على المستويات كافة؛ ما يجعلني أحمد الله وأشكره على ما من به علينا في المملكة العربية السعودية من أمن وأمان، وأدعو إخواني وأخواتي في الوطن إلى الحمد والشكر لله على النعم التي نحن فيها؛ إلا أن الضرر الذي تمر به أمتنا العربية ينغص علينا هذا الشعور الإيجابي، فنحن نحب لإخواننا في الوطن العربي ما ننعم به، ولم تبخل المملكة يوماً على أهلنا في الوطن العربي، فنحن جزء من ذلك الكيان الكبير ونحن جزء من أمة لها رسالتها وتاريخها. لقد استوقفتني بالأمس تغريدة لأخي معالي الدكتور عبدالواحد الحميد على منصة «إكس»، تغريدة جاءت لتثير انتباهنا إلى خطورة السباب والشتائم المتبادلة بين الإخوة العرب على قنوات التواصل الاجتماعي، ودور ذلك في تفريق الصفوف وزرع الفتن والبغضاء بين أبناء الأمة، في فترة عصيبة نشاهد فيها مآسي تعصف بالعديد من أقطارنا العربية؛ ما ينم عن غياب الوعي عما يدور حولنا من مخططات لتدمير الوطن العربي وتشتيت شمل الأمة، وما يحوكه الأعداء من مخطَّطات لزعزعة الأمن والاستقرار في ربوعها، وجدير بنا التعريف بما نوه به الزميل الكريم من وجود وحدة خبيثة من وحدات الموساد الإسرائيلي ديدنها نشر الفتن وتفريق الصف العربي بنشر الفتن الطائفية والعرقية وغيرها. ألا يكفي ما شاهدناه ونشاهده من تدمير طال حتى الآن ست دول عربية؟! إن غياب الوعي عند المواطن العربي -كما هو مشاهد- في غاية الخطورة على الأمن العربي عامة وعلى كل دولة من دولنا، وأرجو أن يعذرني المكذبون بنظرية المؤامرة! فإن هناك من يحوك الدسائس لتفريق صفوفنا، هناك دول لها أجهزتها المتخصصة في نشر الفتن عن دراسة وعلم ببواطن الأمور في بلداننا، وجعل هم كل دولة من دولنا هو محاولة تجنب المآلات التي آلت إليها الدول الست المعروفة لدى الجميع. هذا التحول في الفكر من جمع الصفوف ووحدة المصير إلى جعل كل دولة تخشى على نفسها من مصير ومآل تلك الدول الست، أصبح من أكبر العوائق أمام قيام منظماتنا العربية بدورها المناط بها في توحيد الصفوف والوقوف صفاً واحداً في وجه هذه الهجمة الشرسة على الأمة. هنا يجدر طرح سؤال في غاية الأهمية على وسائل إعلامنا العربية، تلك القنوات العتيدة التي أخذت دور المتسامح مع العدو بنشر ما ينفثه العدو من افتراءات على ألسنة المسؤولين فيه، بحجة التغطية المتوازنة للأخبار، متى كان ما ينشره الأعداء صحيحاً لينشر؟! لقد مللنا رؤية المتحدث باسم جيش العدو ورئيس وزرائه المجرم.. وغيرهم من مجرمي الحرب، يتحدثون بما يدعون الحقيقة بينما الواقع أنه لا يمكن أن تصدر الحقيقة من فم أي من هؤلاء اللئام! والسؤال الأهم لوسائل إعلامنا العربية: لماذا لا تأخذ هذه الوسائل المبادرة في الكشف عن الوسائل الخبيثة التي تقوم بها أجهزة الكيان الصهيوني وغيرها في بث الفتن في الأقطار العربية وبين المواطنين العرب؟ والعمل على مكافحة ذلك السباب والمهاترات التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، وتبيان أنها قد تكون من مصادر معادية ويجب إهمالها وعدم الوقوع في حبائلها، والتقريب بين المواطنين العرب والتعريف بأهمية التلاحم وجمع الكلمة، دون تدخل في شؤون أي دولة من الدول العربية.
مشاركة :