كنتُ ولا أزال أقول: إن وحدة الأمة العربية وتكاتُفها وتفعيل مؤسَّساتها المشتَرَكة هو الطريق لتحقيق التقدم والرقي والرخاء واستقلالية القرار الوطني الخادم لمصالحها، وأن وحدتها وتآخيها - مع احترام كلِّ دولةٍ منها لخصوصية الأخرى بما يتماشى مع ظروفها وطبيعة أحوالها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية - هو السبيل لبعث الأمة ومشارَكتها الفاعلة في الحضارة الإنسانية التي كانت أمتنا فيما مضى في مقدِّمة الأمم البانية لها. قلتُ يوماً: «إن بيوت الخبرة المتخصصة هي عيون الأمة نحو المستقبل، والأمة التي ليست فيها بيوت خبرة هي أمة عمياء لا تعرف أين تتجه»، وقولي هذا لم يكن وليد الصدفة وليس تنظيراً لا تدعمه الحقائق، بل كان نتيجة لمراقبة المشهد العالمي، وكيف تخطِّط وتنفِّذ الدول المتقدمة سياساتها، وكذلك عن تجربة عملية مررتُ بها، والمطَّلعون على ما تقوم به الدول المتقدمة من إفادة من بيوت الخبرة المتخصصة يدركون أن تلك الدول لا تتحرك أو تتخذ قرارات إلا وخلفها دراسات وتفكير وحساب للأرباح أو الخسائر التي تنجُم عن سياساتها وتصرفاتها، هذا ما تقدمه مراكز الأبحاث المتخصصة، بالطبع لا يمكن أن نقول إن تلك المراكز يمكن أن تتنبأ بالدقة المطلَقة بكلِّ النتائج التي يمكن أن تتمخض عنها بعض السياسات، ولكن نتائج دراساتها وتنبُّؤاتها أفضل بكثير مما لو كانت القرارات من دون تفكير ودراسات. التجربة العملية التي وددتُ إيرادها هنا، هي إحدى المبادرات المتعددة التي قامت بها منظَّمة إقليمية خليجية مشتَرَكة من أجل تنويع مصادر الدخل، يومَ أنْ كانت تلك المنظَّمة نشطة على مشهد القطاع الصناعي، كما ورد في ميثاق تأسيسها، وهي «منظَّمة الخليج للاستشارات الصناعية» التي تأسست في عام 1976م قَبْل مجلس التعاون، ومقرها في الدوحة بدولة قطر، ومن مبادراتها العديدة «مؤتمرات الحوار العالمية في المجال الاقتصادي والصناعي»، وكان ذلك قبل أن تدخل على الخط الأمانة العامة لمجلس التعاون بحوارها مع المجموعة الأوروبية. وكان يسبق كلَّ مؤتمر تحاول تلك المنظَّمة تنظيمه دراسةٌ حول التوجهات والتطورات الدولية على المشهد الاقتصادي والصناعي، وتحديد مجالات حاجة دول الخليج في تلك الفترة، وما الدول التي يمكن أن تفيد دولَ الخليج في جهودها لتطوير القطاع الصناعي، وكذلك تلك الدول التي كانت أسواقها واعدةً في استيراد مواد الطاقة المصنَّعة أوالخام المتوفرة في دول الخليج، وكانت اليابان من أُوْلى الدول التي وقع عليها الاختيار، وقد عقدت المنظَّمة معها مؤتمرات تبادلية عدَّة كان الحضور فيها مكثَّفاً من دول الخليج واليابان. خلال بحث المنظَّمة عن الدول الواعدة في عام 1991م تبيَّنَ أن كثيراً من الشركات في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية قد اتجهت إلى الاستثمار والدخول في السوق الصينية بقوة، وأن الصين سوف تكون شريكاً مناسباً لدول الخليج في مجال البتروكيمياويات والنفط، وعند دراسة التجارة البينية تبيَّنَ أنها محدودة (في حدود 500 مليون دولار)، وأن التوجه نحو الصين وعَقْد مؤتمر معها كان ذا أهمية لدول الخليج. وفي ذلك الوقت كانت دولة الكويت قد سبقت الدول الأخرى ودخلت في مشاريع مشتَرَكة مع شركات صينية. فكرةُ عَقْد مؤتمر مع الصين بعد دراسة المشهد العالمي كانت فكرةً قد حان وقتها، ولابد من التمهيد لها؛ فالنظرة إلى تلك البلد على أنها لم تزل شيوعية كانت مسيطرة على فكر بعضهم، ومن ثم جاءت ضرورة إجراء المشاورات مع وزراء الصناعة في الدول الأعضاء وبعض أصحاب القرار لإقناعهم بجدوى المؤتمر، والتشجيع على المشارَكة فيه وحضوره؛ لإعطائه صفة الجدية والأهمية التي يستحقها. كما كانت هناك ضرورة لإيجاد الجهة الصينية التي يمكن أن تكون الشريك المناسب لعقد المؤتمر، وتطلَّبَ ذلك التواصل مع سفير الصين في الدوحة (الذي كان يُجيد العربية بطلاقة كأهلها)، وفعلاً أجرى السفير اتصالاته، وكان الشريكُ في عقد المؤتمر هو «المركز الصيني لتشجيع التجارة الدولية». عُقد المؤتمر في 11-14 أكتوبر 1992م، ورَأَسَه من الجانب الخليجي معالي المهندس عبدالعزيز بن عبدالله الزامل -رحمه الله- وزير الصناعة والكهرباء في المملكة آنذاك، الذي كان مشجعاً وداعماً لذلك المؤتمر منذ أن طُرحت عليه الفكرة، كما حضره ستة وستون من الرسميين ورجال الأعمال والصناعيين الخليجيين، أما الحضور من الجانب الصيني فقد فاق أَلْف مشارك. والآن بعد قرابة ثلاثين عاماً مِنْ عَقْد ذلك المؤتمر، وبعد أن وصل التبادل التجاري بين دول المجلس والصين إلى ما يزيد على 180 مليار دولار، وأصبحت الصين هي الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون، هل يمكن لنا أن نقدِّر ما قامت به تلك المنظَّمة المحدودة الموارد من قيمة بتوجيه البوصلة نحو أين تتجه دول الخليج؟ كيف نرى العلاقات الصينية الخليجية والتبادل التجاري بين دول الخليج والصين الآن؟ وما موقع الصين على الساحة الدولية؟ إن إيراد هذا المثال ليس بقصد تمجيد الذات (لكوني كنتُ واحداً ممن شاركوا في إنجاز ذلك العمل)، ولكنْ قصدتُ التذكيرَ بأن منظَّماتنا العربية المشتَرَكة -سواء كانت عربية أو إسلامية أو إقليمية- يمكن لها أن تكون فاعلة ومؤثرة ومفيدة، إذا نحن أعدنا التفكير في كيفية عملها، وإعادة تأهيلها بالكوادر البحثية القادرة على تقديم دراسات تكون نتائجها مفيدة لصانع القرار العربي، بعيدة عن التسييس والأهواء، بحيث تُخرجنا من النمط الذهني السائد الذي يرى أن تلك المنظَّمات لا تقدِّم منفعةً تُذكَر، بل إنها يمكن أن تصبح مراكز بحثية تقدِّم الدعم والرؤية الصائبة لمتخذي القرار في منطقتنا العربية.
مشاركة :