القاص والأديب الذي خطفته العسكريّة من الأدب, مستأثرة بنبوغه الفكري الحصيف, وطموحه الاستشرافي الحُلمي, ليترقّى في الرّتب العسكريّة, والإدارات الأمنيّة بخطوات راسخة, جمعت إلى إنسانيّة الأديب وحسّه المرهف, صرامة العسكر وحسّهم الأمني , ليتقاعد اللواء الحمزي وليس بينه وبين آخر رتبة عسكرية سوى نجمتين. أمّا إداريًّا فقد تقاعد وهو يشغل منصب المدير العام لقطاع السجون في المملكة العربيّة السعوديّة, وهو حاليًّا مستشار في وزارة الداخليّة. لذلك كان من الطبيعي ألّا ترجح كفّة القاص أو الأديب, مع رجلٍ تقلّد العديد من الإدارات الأمنيّة, بدايةً من إدارة شرطة جازان, ثم إدارة شرطة الحدود الشماليّة, ثم إدارة مرور جازان, ثم إدارة الأمن الشامل بجازان, ثم إدارة شرطة العاصمة المقدسة, ثم قائدًا لقطاع السجون في المملكة. وخلال ذلك كله, كان قد اشتغل وأنجز العديد من البحوث الأمنيّة, وأدار العديد من الورش الأمنية والميدانية, وشارك على مدى 42 عامًا في الخدمة الأمنية لضيوف الرحمن, وشارك 8 مرات في غسيل الكعبة المشرّفة وصلّى داخلها, وترأس اللجنة الأمنية لمؤتمر القمة الإسلامي الطارئ, الذي عقد برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله عام 1432هـ, وترأس وفود المملكة في مؤتمرات أمنية خارجيّة عديدة. فإذًا.. ونحن أمام رجلٍ مسكون بكل هذا الهم الأمني, وهذه المهام الجسام, من أين سيأتي له بوقتٍ لمزاولة الأدب, حتى يشيع أدبه في الناس, فيصنّف في الأدباء المشهورين؟! حقيقةً لم أكن لأتجاسر على الاقتراب من عالم العسكر, لولا هذا الجانب الأدبي, في سيرة هذا العلم المتفرّد الحمزي, وأنا الذي لا أخاف شيئًا في هذه الدنيا, قدر خوفي من العسكر, ومن مسؤول يترفّع عن لبس العقال, ودائمًا أسأل الله السلامة من الاثنين, لأنّ وقوفي أمام أيّ منهما, يشعرني حقيقة بأنّ مصيري قد أصبح في يده. سمّها فوبيا أو ما شئت.. لذلك وأنا أكتب الآن, أجد كلّ قرون الاستشعار عندي مستنفرة, والله يستر! لا أريد الذهاب إلى اختلاق قصص أسطورية, بغية التشويق, غير أنّ ثمّة محطات جمعتني باللواء الحمزي, أجد في ذكرها ما يلقي بعض الضوء على جوانب من سيرته, لذلك أنا مضطر لأن أعرّج عليها. كنتُ قد دُعيتُ من مكة المكرمة, للمشاركة في أمسية شعرية في نادي جازان الأدبي, الذي لم أكن قد دخلته من قبل, ولا أعرف حتى مكانه. وأثناء الأمسية, وبينما كنت ألقي إحدى قصائدي, قلتُ: ليس لي مستقرْ مستقرّي السفرْ لأفاجأ برجلٍ طويل اللحية, قصير الثوب, ودون عقال, ينهض واقفًا وهو يصرخ في انفعال واضح.. ولمّا كان صوته غير مسموع, نهض إليه جمعٌ من رفاقه, وضعوا المايك في يده وانتظموا خلفه, فبدأ يخطب وبذات الانفعال: الله سبحانه وتعالى يقول “ الشمس تجري لمستقرٍّ لها”, وأنت تخالف القرآن وتقول ليس لها مستقر!.. أنتم وأنتم.. ومضى في خطبته, إلى أن وصل إليه الأستاذ عبد الرحمن الرفاعي, وأخذ المايك من يده, وبدأ يخاطبه ورفاقه, طالبًا منهم عدم الإساءة للدين وللناس, من خلال فهمهم القاصر لما يسمعون. في هذه الأثناء, صعد ضابط المنصة, ثم التفّ من خلفي وهمس في أذني: لا تلق لهم بالًا, استمر في إلقاء قصائدك ولا تخشَ تجمعهم, البلد فيها أمن.. بعد الأمسية, وبينما كنت أهمّ بمغادرة النادي, عاد إليّ هذا الضابط, وطلب مني الانتظار في النادي ساعة على الأقل. قال إنهم ما زالوا متجمعين خارج النادي, ولعلهم ينتظرون خروجك. وتمضي الأيام, وتأتي إلى مكة المكرمة مجموعة من رجال الأمن في جازان, للمشاركة في قوات أمن الحج, كان من بينهم أحد أقاربي, اتصل بي قريبي هذا يخبرني بمجيئه, فذهبت إلى معسكرهم للسلام عليه, وعند انصرافي دعوته إلى واجبه في منزلي, مع من يريد دعوته من زملائه.. قال لي: لن نلبي دعوتك إلا إذا دعوت قائدنا إبراهيم الحمزي. ثم أخذني إليه, لأجد نفسي أمام ذلك الضابط الذي وقف إلى جانبي في النادي الأدبي, وهنا فوجئ قريبي وزملاؤه بعناقنا لبعضنا, وبابتساماتنا التي ترافقت مع نتفٍ من الكلام, غير المفهوم لهم.. وافق قائدهم على تلبية الدعوة, وقد اشترط مازحًا أن يكون ضمن المدعوين, شاعر مكة محمد الثبيتي. وقد سعدتُ كثيرًا عندما جاء ضيفي الكبير محاطًا برفاقه, ووجد أبا يوسف ـ رحمه الله ـ في انتظاره, واكتملت سعادتي عندما رأيت الرجلين يخوضان في قضايا أدبية هامّة, كانت حديث الساعة, لأكتشف أنّ ضيفي لم يكن مجرّد ضابط مثقف, وإنما هو مهتم بالأدب, ومتابع عن كثب للساحة الثقافية والأدبية. ثم عرفت لاحقًا أنه قاص, يكتب القصة القصيرة بلغةٍ بِكرٍ وأسلوبٍ حديث, أدهشتني رؤاها ومضامينها, وتقنياتها المرتكزة على الاقتصاد في المفردة.. أرسل لي لاحقًا عددًا من القصص, نشرتُ بعضها وبعضها كان قد سبق نشره. لم ألتقِ بعدها بالحمزي, إلى أن دعيتُ ثانية لأمسية شعرية في نادي جازان الأدبي, وكنت حينها قد انتقلتُ إلى جازان, وأثناء الأمسية قلت في إحدى قصائدي: حلفتُ للشعر إني لا أطأطئه, كِبْرًا وإني لا أكســـوه ريش غبي ولا أنكســـه إلا ـ ويعــــذرني ـ لِغرَّةٍ بات فيها الفلّ يعصف بي لأجد الحمزي، وكان بزيّه المدني هذه المرة, ينهض من بين الحضور يطالبني بإعادة البيتين. في عام 1427هـ ـ 2006م, كانت جازان تعيش لحظة نادرة من عمرها, وكل رجل وامرأة فيها, كان على موعدٍ مع زيارة خادم الحرمين الشريفين, الملك عبد الله بن عبد العزيز طيب الله ثراه, وكانت الاستعدادات لهذه المناسبة الغالية تجري على أشدها. وإذا كان خلف كل عمل عظيم جنديّ مجهول كما يقال, فلن يكون الجندي المجهول في احتفالات منطقة جازان بمليكها, سوى إبراهيم بن محمد الحمزي, مع حفظ اللقب لهذا الضابط الكبير, الذي اختاره سمو أمير المنطقة محمد بن ناصر بن عبد العزيز لهذه المهمة, بعد أن نثر كنانته وعجم عيدانها, فوجده الأجدر بهذه المهمّة, وعيًا وثقافة وانضباطًا في العمل, فكان بالفعل عند حسن ظنّ الأمير, وموضع ثقة المنطقة بأسرها. أتذكر تلك الليلة الطويلة, التي قضيناها في نادي جازان الأدبي, لاختيار الأوبريت الأنسب من بين أربعة عشر أوبريتًا, كنتُ أحد أعضاء لجنة الاختيار, وكان الحمزي مندوب إمارة المنطقة, كانت الساعة قد شارفت على الثانية بعد منتصف الليل, ونحن في جدال لا يلوح له آخر, ذلك أني كنتُ متمسّكًا بأوبريت “ أهلًا ملايين”, الذي اشتهر لاحقًا بسعوديين حبر العلا من دمّنا, فيما كان بعض أعضاء اللجنة لهم رأي آخر, ما اضطرني لأن أقول للحمزي, وبأسلوبٍ جاف: إذا كنت تبحث عن أوبريت حقيقي يمثل أبناء جازان خذ أهلًا ملايين, أمّا إذا كنت تبحث عن المجاملات, فأنا أستأذنكم. وغادرت الجلسة.. لينهض في إثري الحمزي والأستاذ أحمد البهكلي رحمه الله, لكي يعيدوني إلى الجلسة, لكني رفضت العودة إلا إذا طلب الحمزي من رئيس النادي أحمد الحربي رحمه الله, كتابة المحضر باعتماد أهلًا ملايين, سيّما وقد حاز هذا الأوبريت أكثر الأصوات, وفي أكثر من جولة تصويت, لكن البعض كانوا ضدّ اختياره. ولم أعد للجلسة إلا بعد أن بدأ الحربي كتابة المحضر, باعتماد أهلًا ملايين, ويعلم الله أنني لم أعرف أنه لأحمد السيد عطيف, إلا بعد توقيع المحضر, وبعد الكشف عن اسم صاحب الأوبريت الفائز. بعدها بأيام, اتصل بي الحمزي يطلب مني كتابة أغنية لأطفال جازان, ينشدونها أمام الملك, فرشّحت له من هو أقدر مني على ذلك, رشّحتُ الشاعر الجميل جبران قحل, الذي لم يكن الحمزي قد سمع عنه. اتصلتُ به فكتب على الفور أغنية “ يا بابا عبد الله” الشهيرة, التي لحّنها الفنان صالح خيري, وغنتها ابنته مع أطفال جازان. ولم يقتصر دور الحمزي على اختيار النصوص, وإنما كان هو المسؤول الأول عن لجنة الاحتفال, وعن ظهور الأوبريت بتلك الصورة الرائعة التي رأيناها. فبعد أن كان الفنان الكبير محمد عبده قد بدأ الإعداد لغناء أوبريت أهلا ملايين, حدثت ظرف استثنائي, يدعو إلى توقف الغناء في الاحتفالات, الأمر الذي اضطرّ الحمزي ورفاقه في اللجنة, إلى تقديم الأوبريت من خلال تلك اللوحات الشعبية البديعة, التي شاهدناها وما زال صداها يتردّد إلى اليوم. فمن هو اللواء إبراهيم بن محمد الحمزي؟ إنه باختصار, ابن جازان البار, الذي ولد في قرية الغريب, إحدى قرى وادي جازان التابعة لمحافظة أبي عريش, بدأ دراسته الابتدائية في مدرسة العزيزيّة بجازان, ثم أكمل الابتدائية والمتوسطة في قرية الواصلي, أمّا الثانويّة فقد درسها في ثانوية معاذ بن جبل بجازان المدينة. تخرّج بعد ذلك في كلية الأمن, وحاز على دبلوم عالٍ من المركز العربي للدراسات الأمنية. عمل في فترة مبكرة من حياته رئيسًا لنادي التهامي الرياضي بجازان, ليصعد النادي على يديه, ولأول مرة إلى دوري الدرجة الأولى, وهو الذي جلب له المدرب الأوروبي باسكال. إذًا فهو القياديّ الناجح, الذي استطاع بسببٍ من طبعه الهادئ المتواضع, وخلقه الرفيع, وثقافته واطلاعه الواسع, وإخلاصه بل وتفانيه في خدمة الناس, أن يحوز الحبّ والثناء الدائم عليه, ممن رافقوه وعملوا تحت إدارته, كونهم هم من خلعوا عليه صفة القيادي الناجح, وهم من نعتوه وشهدوا له بغيرته الشديدة على دينه ووطنه ومليكه. وحتى لا أختم حديثي عن علّمٍ جمع بين العسكرية والأدب, وما زال في نفسي شيء من أدب العسكر, سأقول: الخوف والقلق والرهبة, وما إلى ذلك من مشاعر سوداء أو قبيحة ننفر منها, حين يشتغل الأديب أو الفنان على هندستها فنيًّا, يرينا في النهاية ما في هذه المشاعر القبيحة من جماليات, باتت تُعرف بجماليات القبح, من خلال أعمالٍ جميلة فنيًّا, رغم قبح موضوعها, الخوف مثالًا.. لكن العسكر المحصّنين ضد هذه المشاعر السوداء, لكي لا يخافون المعارك, ولا يرهبون المواجهات الأمنية, بل وتركز تربيتهم على الخشونة وقسوة المشاعر. أتساءل, كيف لهم أن يبدعوا أدبًا, لا يختلف عن أدب غيرهم الأدباء؟ صحيح ليس كل العسكر عسكرًا, على الأقل حتى لا يتساوى الهرّ بالنمور والفهود, تحت ذريعة الانتماء إلى ذات الفصيلة. وللإنصاف أيضًا.. ليس كل قاص هو نجيب محفوظ, ولا كل شاعر هو المتنبي. غير أنّ هذه النسبيّة, لن تقنعني أبدًا, بأنّ من بين العسكر أدباء, يضاهون كمّا وكيفًا غيرهم من الأدباء, من ذوي المهن الأخرى, كالأطباء على سبيل المثال.
مشاركة :