اتسع الخرق على الراقع.. بين الفكر والواقع!

  • 10/28/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

فتش عن التربة وراء فشل أو نجاح غرس ما، سواء كان غرساً نباتياً أو غرساً فكرياً، فما يجود في تربة ما يفسد ويفشل في تربة أخرى، والعقل الجمعي في كل مكان هو التربة التي نزرع فيها الفكر ونغرس فيها النظريات والمناهج. والأفكار مثل السلع، هناك أفكار رديئة وفاسدة في عبوة أو علبة أنيقة وغلاف جميل، وهناك أفكار جيدة وصالحة في عبوة رديئة. وفي العالم العربي نحن معنيون بالتعليب والتغليف ولسنا معنيين بالسلعة إن كانت رديئة أو جيدة. نحن معنيون بالمظهر لا بالجوهر على كل المستويات وفي كل المجالات، حتى في الأشخاص وتقييمهم والحكم عليهم يفوز عندنا الأقدر على تسويق نفسه وبضاعته ولو كانت فاسدة وكاسدة. ويخسر عندنا من يفشل في تسويق ذاته ولو كانت بضاعته جيدة. كيف تعرض وليس ماذا تعرض؟ لذلك تقدم المشهد العربي أراذلنا بادي الرأي وتأخر أثرياء العقول والفكر في كل مجال، فجمعنا بين فكر الفقر وفقر الفكر. وخلقنا تربة عقلية غير صالحة لا يجود فيها غرس ولا يصلح لها زرع. صنعنا عقلاً جمعياً عربياً لا يصلح لزرع فكر أو غرس مناهج أو قيم وإنما يصلح (مكباً) للنفايات الفكرية. والعقل الجمعي العربي يشبه تماماً مكب النفايات الذي يجمع فيه كل النفايات المتضادة. مخلفات صلبة ومخلفات سائلة. مخلفات طعام ومخلفات أثاث ومخلفات ملابس. كل المتناقضات فيه ولا يجمعها سوى أنها مخلفات، هذا هو عنوانها الجامع والمكب لا يرفض ما يلقى فيه، لكن التربة لها الاختيار، فهي ترفض نباتاً ما وتقبل نباتاً آخر. التربة لديها مناعة تجعلها تلفظ نباتاً لا يصلح لها. لكن مكب النفايات بلا أي مناعة ولا يرفض شيئاً، حتى إذا ألقي فيه الصالح الذي ليس بمخلفات تحول بعد قليل إلى نفايات وقمامة. وعندما تعلم وأعلم أن المشكلة في التربة أو العقل الجمعي الذي تحول إلى (مكب) نفايات سوف تجد كل الأجوبة على كل الأسئلة وأهمها لماذا فشلت كل المناهج السياسية والتيارات الفكرية في أمتنا العربية؟ فشلت الاشتراكية وفشلت الشيوعية وفشلت الرأسمالية والليبرالية والعلمانية والتيارات الدينية وفشلت الديمقراطية والأداء الإعلامي والمنظومة التعليمية. تعالوا نتفق على أن كل النظريات والمناهج مثالية وفاضلة حتى الشيوعية التي نربطها بالإلحاد ربطاً غير صحيح في المجمل نظرية رائعة ومثالية وكذلك العلمانية والليبرالية والاشتراكية والديمقراطية. لا توجد نظرية أو منهج سيئ في صياغته ومراميه وأهدافه. ولكن كل النظريات والمناهج عندما تهبط من سماء الفكر إلى أرض التطبيق تسقط في مكب القمامة الفكرية العربية، فتفسد ويتغير لونها وطعمها وتصبح غير صالحة للاستهلاك الآدمي، لأن المشكلة كما قلت لكم في التربة الفاسدة التي تحولت إلى (مكبات قمامة) - لا يمكن أن يتطرق شك إلى حصيف وعاقل، ولديه بعض الإيمان بأن المنهج الرباني العظيم في أي عقيدة إسلامية أو مسيحية أو يهودية به نقص أو عيب أو خلل. وحاشا الله أن يكون فيما أنزله على رسله الكرام سوى الكمال المطلق. ولكن المشكلة دائماً في العقل الجمعي أو (مكب) القمامة الذي يتفاعل مع هذه العقائد العظيمة والكاملة فيفسدها. وتصبح نتاج هذا العقل الجمعي وليست نتاج ما أنزله الله تعالى. المشكلة كما أزعم دوماً هي مشكلة الإناء الملوث والمسمم الذي يسمم ويلوث أي سائل نضعه فيه ولو كان ترياقاً. والعقل الجمعي العربي يشبه تماماً هذا الإناء المسمم أو الملوث، لذلك فسدت كل المناهج الإلهية والوضعية التي دخلته. فلا عيب ولا نقص في أي منهج، ولكن العيب في تفاعل العقل الجمعي العربي مع هذا المنهج وإفساده بالشخصنة، والأثرة وضيق الأفق والعصبية والتطرف والغلو. واضرب لهم مثلاً بالديمقراطية التي اختزلها العقل الجمعي العربي وحبسها في صناديق الانتخابات، رغم أن هذا العقل الجمعي العربي ديكتاتور كبير ومستبد غاشم. وبالتالي صارت الديمقراطية مجرد مطية إلى السلطة. فإذا جاءت بي الانتخابات إلى المقعد، فإنها شفافة ونزيهة، وإذا خسرت فإنها مزورة والانتخابات في الأمة العربية مثل الامتحانات لا ينجح فيها، أو يفوز بالضرورة من يستحق، بل كثيراً ما يتبوأ المراكز الأولى في الامتحانات من لا يستحقون، ويفوز في الانتخابات من لا قيمة لهم ولا فكر، لأن العقل الجمعي العربي، أو الناخب العربي يتعامل بشعار التصويت السلبي أو التصويت الذاتي.. بمعنى أنه يعطي صوته لزيد كراهية في عمرو وليس حبا لزيد. وهو شعار الفتنة الكبرى الذي كان يقول «ليس حباً في علي وإنما كراهية في معاوية»، أي يجتمع الناس على الكراهية لا على الحب. وأما التصويت الذاتي، فيعني أن الناخب العربي يعطي صوته لمن يقدم إليه خدمة مباشرة أو حتى سلعة مباشرة ولا يعطي صوته لمن يقدم خدمات عامة، لذلك انتشرت الرشاوى الانتخابية في كثير من البلاد العربية استغلالاً للنزعة الذاتية لدى الناخب وذهاب صوته إلى من يخدمه هو شخصياً حتى إذا كان لصاً أو فاسداً على المستوى العام.. ومعنى ذلك أن الشأن العام غائب تماماً عن العقل الجمعي العربي وأن الذاتية والشخصنة هما الحاضرتان بقوة في كل المشاهد.. وكما أن هناك صراعاً بين الفكر والواقع وتناقضاً بين النظرية والتطبيق في العقل الجمعي العربي فإن هناك أيضاً صراعاً مريراً بين الذاتية والموضوعية.. وبين الشأن الخاص والشأن العام.. والغلبة في كل جولات هذا الصراع وهذا الصداع للذاتي على الموضوعي وللخاص على العام. وحين تطالع المشهد العربي كله ترى بجلاء البون الشاسع بين القول والعمل، بين النظرية والتطبيق، وترى اتساع الخرق على الراقع بين الفكر والواقع! محمد أبوكريشة* كاتب صحفي

مشاركة :