عن دار الرافدين في بيروت وبغداد، صدر للدكتور حسن مدن كتاب «حداثة ظهرها إلى الجدار – قراءات في التحوّلات الثقافيّة في مجتمعات الخليج والجزيرة العربيّة»، ويعالج الكتاب الذي يقع في أربعة فصول ومقدمة وخاتمة، مسار هذه التحوّلات للخروج مما عانت منه هذه المنطقة، سواء في قلب الجزيرة العربية أو في أطرافها، وخاصة شاطئها الشرقي وإمارات الخليج العربي من عزلة، بعد انتقال مركز الدّولة العربيّة الإسلاميّة إلى أقاليم جديدة فتحها العرب. يبحث الكتاب في أسباب ذلك، ويحاول تتّبع الجهود التي بذلتها أجيال من النّخب المتعلّمة والمثقّفة الحديثة - خاصّة أجيالها الأولى - لكسر عزلة المنطقة عن محيطها العربيّ، والانفتاح على الحداثة والثّقافات الجديدة، محاولًا تقديم ما يشبه اللوحة البانوراميّة للتّحوّلات الثّقافيّة في بلدان المنطقة، بالارتباط بالتحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة التي مرّت بها. وإذا كان وقوع البلدان العربيّة - أو الكثير منها - في المشرق والمغرب على حدٍّ سواء على البحر الأبيض المتوسّط، جعل أعين النّخب المتعلّمة والمتفتّحة الأولى فيها تتّجه نحو الضّفة الأخرى من المتوسط، أي نحو أوروبا؛ لتنهل من علومها وأفكارها وتتأثّر بنهضتها، فإنّ الهند لعبتْ مثل هذا الدّور بالنّسبة إلى النّخب الثّقافيّة الأولى في بلدان الخليج والجزيرة العربيّة، ليس لأنّها أتاحت لهم التّعرّف على ثقافة وحضارة بلدٍ آخر مختلف، وإنّما لأنّ وجودهم فيها يسّر لهم مدّ جسور التّواصل مع نظرائهم في البلدان العربيّة، كما فتح لهم النّوافذ على جديد الثّقافة العربيّة من خلال إطلاعهم على الدوريّات الصّادرة في مصر وبلاد الشّام والعراق، لذا خصّص المؤلف فصلًا في الكتاب سلط فيه الضّوء على حياة وعطاء بعض أهل الثّقافة والفنّ ممّن عاشوا، فترات من حياتهم، في الهند، ومحاولة التّعرّف على ما أكسبته إيّاهم إقامتهم فيها، لنجد أنّ إضاءة ذلك يسعفنا في التّعرّف أكثر على جوانب من تاريخنا الثّقافيّ، ومصادر التّأثير فيه، بل إنّه لا يمكن التعرّف على هذا التاريخ دون الوقوف عند هذه المحطة بالذات، التي بتغطيتها نغطي صفحات مهمّة منه. يذكر المؤلف في مقدمة الكتاب أنه لم يرد لكتابه أنْ يكون تأريخًا للثّقافة في الخليج والجزيرة العربيّة بقدر ما هو وقوف عند محطّات اعتبرها فاصلة في هذا التّاريخ، حيث لم يكن بالإمكان بسط الموضوع الذي هو بصدده دون شيء من الاستعراض التّاريخيّ - الضّروريّ – لتسليط الضوء على المفاصل الأساسية للتحوّلات في بلدان المنطقة. ورغم أن الكاتب يشير إلى أنّ المدينة الخليجية الحديثة بلغت مستوى متقدّمًا من النهضة العمرانيّة، وأُنجزت فيها مبنية تحتيّة في غاية التّطوّر، وتتوفّر فيها الخدمات على أنواعها، وهو أمر لا يجب التّقليل من أهميته، لكنْ علينا - من الجانب الآخر - أنْ ندرك بأنّ الحداثة ليست مجرّد اقتناء لمنتجاتها الآتية من البلدان التي سبقتنا - كعرب مجتمعين - إليها، كالأجهزة المتطوّرة والأجيال الأحدث من الهواتف الذّكيّة أو آخر موديلات السّيارات الفارهة، وإنما هي منظومة متكاملة، ليست التقنية الحديثة سوى إحدى ثمارها، فهي تشمل الأداء الاقتصاديّ الحديث والحوكمة الإداريّة وبناء المجتمع المدنيّ، وهي قبل ذلك كله - وبعده أيضًا - بناء الوعي الحديث؛ ليتغلغل في كلّ ثنايا و(شقوق) المجتمع؛ ليخلّل البنى التّقليديّة المعيقة لإنجاز الحداثة، أو في أقلّ الأحوال إعادة تكييف هذه البنى وفق موجبات ومقتضيات هذه الحداثة. وفي هذا الحيّز المهمّ بالذّات فإنّ مجتمعات الخليج تجابه تحدّيات وأسئلة الحداثة، كما تجابهها كلّ المجتمعات العربيّة الأخرى، ولا يمكن تناول الموضوع إلّا في إطار رؤية المسار المعقّد للحداثة العربيّة منذ بداياتها حتّى اليوم، وقد اجتزنا عقدين كاملين من القرن الحادي والعشرين.
مشاركة :