يتكرر تسويق وجوه التشابه بين حالتي سورية والبوسنة لتمرير بعض التفاؤل حول نهاية سياسية للصراع السوري، بينما تغفل عناصر الاختلاف وضرورة قراءة خصوصية كل تجربة وما يترتب على ذلك من نتائج قد تكون مريرة. أولاً، صحيح أن ثمة تقارباً بين التجربتين في تلكؤ المجتمع الدولي وسلبيته طيلة سنوات من حرب أهلية فاق العنف فيها كل تصور، وخلف خراباً ودماراً ومئات الألوف من الضحايا والمعتقلين والمشردين واللاجئين، ما استدعى طلب تدخل دولي لحماية المدنيين ووقف المجازر المتكررة، لكنّ ثمة اختلافاً بين تدخل غربي في البوسنة له ارتداداته البسيطة كجمهورية صغيرة تابعة ليوغوسلافيا وتجاور أوروبا، وبين تبعات خطيرة لاحتمال التدخل في الحالة السورية، كدولة عربية كبيرة تقع في منطقة حساسة من العالم ولها حلفاء أقوياء لهم مصلحة في دعم الوضع القائم والحفاظ على نفوذهم في المشرق العربي. وثمة اختلاف أيضاً في دور الرأي العام الذي دعم تدخل عسكري غربي في البوسنة وإن تأخر ثلاث سنوات ونيفاً، بينما لا يزال يكتفي بالتعاطف مع اللاجئين السوريين الفارين من أتون العنف! ثانياً، حربا البوسنة وسورية مختلفتان في الشروط والظروف، إن لجهة الامتداد الإقليمي الذي يميز الصراع السوري المفتوح على مكونات قومية ومذهبية تمتد في بلدان الجوار، ما يهدد أمن المنطقة واستقرارها، وإن بظهور «داعش» وما يخلفه من تعقيدات أعادت ترتيب الأهداف لدى مختلف البلدان الغربية التي منحت الأولوية لمواجهة خطورة هذا التنظيم وتمدده، وإن لجهة التبدل الذي طرأ على مواقع القوى العظمى، حيث كان الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينات في صيرورة تفكك وإحجام عن لعب دوره الخارجي بينما ظهرت الولايات المتحدة في أوج قوتها، بينما تبدو اليوم إدارة اوباما في لحظة انكفاء عالمي ويبدو الاتحاد الروسي كما لو أنه يحاول استعادة بعض نفوذه ومواقعه، وأخيراً، لجهة الموقع حيث سرع وجود البوسنة بجوار دول حلف الناتو خلاصها، بينما لعب دوراً معاكساً قرب سورية من إسرائيل التي ليس من مصلحتها سقوط نظام شكل استقراراً لأمن حدودها طيلة عقود ليحل مكانه نظام قد يهدد أمنها أو يعدل ميزان القوى في المنطقة. ولا تغير هذه الحقيقة رغبة الغرب وإسرائيل في إطالة أمد النزاع السوري حتى لو أبيد أغلب مدن البلاد وأفني أهلها، وتالياً في تشجيع تحوله إلى نزاع طائفي ومناطقي ينهك المجتمع السوري ويجعله ضعيفاً وعاجزاً عن تشكيل تهديد لتل أبيب! ثالثاً، من الخطأ سحب مثال البوسنة والرهان على تطبيقه في سورية، فنجاح التدخل والضغط الأميركي المدعوم أوروبياً في وقف العنف هناك، استدعى ترتيب حالة توافقية من التقسيم ومنح حكم ذاتي للمكونات المتصارعة من صرب ومسلمين وكروات في إطار فيديرالي بأمل إزالة الحقد والكراهية واستعادة الثقة والتعايش تدريجياً. صحيح أن ملامح تقاسم الأرض في سورية باتت واضحة وقد رسمتها خطوط الخنادق والبنادق، وثمة مناطق تحت سيطرة النظام وأخرى يسيطر عليها الأكراد وثالثة يسيطر عليها «داعش» ورابعة تسيطر عليها جماعات متنوعة من المعارضة المسلحة الإسلامية، لكن يظل التقسيم أمراً مستبعداً في سورية، حيث تسعى مختلف الأطراف الى فرض سطوتها على الوطن ككل، وترفض أجندتها خيار التقاسم والتقسيم، ما يرجح أن يطلق أي تدخل خارجي لفرض الأمر الواقع، رداً عنيفاً يطيل من أمد الصراع ويجعله أكثر حدة. رابعاً، التمايز بين الحالتين في درجة الحروب بالوكالة. صحيح أن حرب البوسنة تغذت من خلال دعم أطراف خارجية لوكلاء محليين، لكن بقي هذا الأمر محدوداً بخلاف الوضع السوري حيث تكاثرت القوى الخارجية المتنافسة وحولت البلاد إلى ساحة صراع إقليمي وعالمي! وما دام تضارب مصالح الداعمين الخارجيين مستمراً سيستمر تدفق الأسلحة والأموال، ويطول أمد الصراع وتزيد كلفته. وإذ منحت الظروف في تجربة البوسنة، لبلد واحد، هو الولايات المتحدة، يملك النفوذ والقوة لإقناع القوى الخارجية بقبول فكرة حل سياسي ولرعاية اتفاق لوقف إطلاق النار، فهل اللحظة السورية قد حانت؟! وهل يعيد التاريخ نفسه وتلقي الحرب أوزارها في سورية بتوافق أهم القوى الخارجية والإقليمية؟! وهل يمكن اعتبار اللقاء الرباعي الأخير بين أميركا وروسيـا وتركيا والسعودية خطوة أولى على هذه الطريق؟! خامساً، ثمة فارق مهم ونوعي بين اتفاق سلام دايتون الذي توصل خلاله المتصارعون في البوسنة إلى حلول مرضية للجميع نسبياً، وبين مؤتمري جنيف -1 وجنيف - 2 حيث المواقف لا تزال مشحونة بصراع وجودي في سورية ويعتقد كل طرف، وعلى رغم ما يعانيه من إنهاك، بأن الحرب يجب أن تتواصل حتى إنهاء الطرف الآخر، لتبدو مشاريع التسوية والحلول السياسية محاولة لربح الوقت كي تستمر مختلف الأطراف بتحصيل المكاسب عبر الخيار العسكري! ونضيف أن سر نجاح دايتون كان اجتماع الوكلاء مع الأطراف الخارجيين الداعمين لهم للتوصل إلى حل توافقي، أما في جنيف فجاءت البداية من الأدوار الداخلية وإن حظي المؤتمر برعاية دولية، ويبدو عندما يتعلق الأمر بمثالي البوسنة وسورية، يكون العمل من الداخل إلى الخارج سلبياً، ويرجح أن ينطوي على نتائج عكسية تطيل أمد الحرب، والبديل، ربما الرهان على تأسيس اتفاق بين مختلف الداعمين الخارجيين ولنقل تسوية يقبلون بها ويفرضونها على وكلائهم كمقدمة لإنجاح العملية التفاوضية والمعالجة السياسية. والحال، فإن أي جهد حاسم تبذله القوى الخارجية المؤثرة يمكن أن يحدث فارقاً في النزاع السوري، أو يوقف على الأقل العنف المتمادي، ويضع سورية على طريق البوسنة، والقصد احتمال التوصل بعد سنوات مدمرة إلى اتفاق يقارب اتفاق دايتون بين القوى الخارجية ويفرض على الوكلاء المحليين، واضعاً حجر الأساس لتلبية حقوق الناس وخلاص هذا الشعب المنكوب من محنته. * كاتب سوري
مشاركة :