منذ صدع الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، بدعوة الإسلام قبل نحو خمسة عشر قرناً من الزمان لم تنقطع الشبهات والمزاعم المغرضة ضد الإسلام ورسوله. خصوم الإسلام لم يتوقفوا يوماً عن إثارة الشبهات المغرضة والمزاعم الكاذبة ضد ديننا الحنيف للتشكيك فيه، وتشويه صورته، وصرف الناس عنه. افتراءات هؤلاء الخصوم تكشف عن جهل شديد بتعاليم الإسلام السامية، وقيمه الفاضلة، وغاياته النبيلة. كما تكشف عن حقد دفين يستهدف الإساءة للدين وأهله، الأمر الذي يستوجب مواجهة تلك الشبهات والمزاعم، وكشف زيفها. من تلك الشبهات والمزاعم الادعاء بأن تعاليم الإسلام ترفض الآخر، ولا تعترف به، وتناهض فكره، وتستبعد تراثه الثقافي. فما هي حقائق الإسلام التي تدحض تلك الشبهة، وتسقط ذلك الزعم، وتكشف مغالطات خصوم الإسلام وافتراءاتهم؟ يؤكد الدكتور تيسير رجب التميمي قاضي قضاة فلسطين، رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس أن الفهم العميق لتعاليم الإسلام ومبادئه وحقائقه يظهر أن من أهم أهدافه قبول الآخر، واحترام فكره، وتراثه الثقافي بغض النظر عن دينه. بر وإقساط ويقول: ينبغي أن ندرك حقيقة أن الدعوة إلى دين الله عز وجل تقوم على اتباع الحكمة والموعظة الحسنة والمخاطبة بالرفق واللين مع غير المسلمين.. قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.. (سورة النحل: 521). وقد أمر الله رسوله موسى وأخاه هارون عليهما السلام بالرفق واللين مع فرعون، فقال تعالى: اذْهَبَا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى.. (سورة طه) 43 - 44: فالرفق مع الآخر من الصفات التي دعا إليها الإسلام وحبب فيها.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله.. (رواه البخاري). ويحدد القرآن الكريم علاقة المسلمين مع الآخر غير المسلم بقوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين.. (سورة الممتحنة:8). فالعلاقة وفقاً لهذه الآية الكريمة تقوم على البر بهم والإقساط إليهم.. والبر يكون بأن تعطى لهم حقوقهم كاملة دون إنقاص، والإقساط إليهم يكون بأن يُعطوا زيادة على حقوقهم اختياراً وكرماً. كرامة مصانة ويمضي د. تيسير التميمي مؤكداً أن أهل الكتاب لهم نظرة خاصة، ومكانة خاصة، ومعاملة خاصة في الإسلام. ويضيف: إن عاش أهل الكتاب مواطنين في دولة الإسلام فلهم حقوق لابد من المحافظة عليها، فيحرم إكراههم على ترك دينهم، ويجب ضمان حريتهم في ممارسة عباداتهم، وتوفير الحماية لهم، ولأماكن عبادتهم، فها هو الخليفة العادل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يمتنع عن الصلاة في كنيسة القيامة عندما ذهب إلى بيت المقدس فاتحاً في السنة الخامسة عشرة للهجرة حتى لا يتخذها المسلمون من بعده مسجداً. ويجب أيضاً أن تصان كرامتهم، وأن توفر لهم فرصة محاورة المسلمين ومناقشتهم ومناظرتهم في إطار أدب الحوار، والبعد عن العنف.. قال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.. (سورة العنكبوت:46). وأباح الإسلام إقامة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية معهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي. كما أباح الإسلام مصاهرتهم والأكل من ذبائحهم.. قال تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ.. (سورة المائدة:5). واعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإساءة إليهم أو إنقاص حقوقهم أمراً محرماً، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة.. (رواه أبو داود). مجتمع إنساني متسامح ويضيف د. التميمي أن التسامح الإسلامي في التعامل مع الآخر، وحسن المعاملة، ومجانبة التعصب من أهم أسرار انتشار الإسلام السريع بين الناس، ودخولهم في دين الله أفواجاً، فقد أرسى هذا الدين أسساً واتبع خطوات غير مسبوقة أسهمت في بناء مجتمع إنساني كان فيه المرء المتسامح طبيباً معالجاً لمشاكل الناس وهمومهم، وبلسماً شافياً لآلام نفوسهم. ويشير إلى أن التسامح بين البشر على مستوى الأفراد والجماعات من سمات هذا الدين، لكن دون استسلام للشر، أو تمكين للظالمين، ما يؤدي إلى علاقات إنسانية ودية تقوم على الاحترام، ودفع العداوة بالتي هي أحسن، لجلب المحبة بين الناس، والصفح الجميل، والاكتفاء بالعقاب المقتصر على أخذ الحق من غير اعتداء. ويختتم الشيخ تيسير التميمي كلامه قائلاً: إن الإسلام دين عالمي موجه إلى الناس جميعاً، لتحقيق رابطة إنسانية كونية واحدة تسودها المساواة، وتذوب فيها الفوارق بين الناس، وتلغى كل مظاهر التفرقة، وتهدف إلى تجميع الطاقات، وتضافر الجهود، وتقوم على الاعتراف بالآخر، وثقافته، وحضارته، وتدعو إلى محاورته. والإسلام دين يدعو إلى توثيق علاقات التعارف بين جميع الأفراد والشعوب، وإلى التعاون الذي يؤدي إلى تحقيق خير البشرية وتقدمها الحضاري والعلمي، وقد بلغ التعارف بين أبناء البشر بظهور الإسلام مستوى لا نظير له.. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.. (سورة الحجرات:13). وقد اعتبر الإسلام الآخر جزءاً من المجتمع المسلم، يتمتع بالحقوق، ويتحمل المسؤوليات، وأرسى قواعد للتعايش معه في شتى أنواع التعامل.
مشاركة :