الشيخ سالم العبري ... وحين أستذكر ذلك اللقاء بالشيخ عبد الله الخليلي في مقرهم بسمائل بـ"السبحية" ونسجل معه عن ذكرياته التي أذيعت في برنامج (حديث الذكريات) لمقدمته الإعلامية أمينة صبري؛ لكنني لا أتذكر لقاء لي مع الشيخ سعود خارج اللقاءات الرسمية فهو قد نزع إلى سبيل رجال الأعمال ولست متعلقا أو قريباً من هذا الفريق إلا بقرب الصداقة والحاجة لتسيير الأعمال الرسمية وخدمة المجتمع الذي أمثل. ومن المصادفة أن أطول لقاء لي بهذه الشخصية المميزة أعني الشيخ سعود الخليلي كان حين التقينا وجلسنا معاً وقتاً ليس بقصير. في وقت دفن الشيخ الوليد بن زاهر الهنائي وقت ليل عام 1996 وتصادف لقاؤنا وجهاً لوجه فانتحينا مكاناً نتحدث فيه معاً كأنه أراد أن يسبر كُنهي. ورغم أننا التقينا في وجوه عدة يدفع إلى ذلك هذا الاستيعاب الذي يملكه المرحوم الشيخ سعود الخليلي وذلك الحب والاحترام الذي يبدو غالباً عليه لكل عماني لصيق بتربة الوطن ورؤاه وتاريخه فكيف إذا يأتيه من بيوت وبلدان تلتقي مع الشيخ في مجالات الاهتمام ومن رجالٍ عرفهم ويُقدرهم كما هم عرفوه علماً ومكانة وبادلوهم حباً بحب واحتراماً باحترام، يكفي أن أشير إلى أن أشعار جدهم الشيخ عبد الله بن سعيد الخليلي (المحقق الخليلي) لا تفارق فاه أبي وكوكبة من الشخصيات العمانية قد جمعتهم مدرسة الإمام الخليلي تعليماً وتدريباً في نزوى ترديداً واستشهادا؛ فهم قد تتلمذوا عليه مباشرةً من خلال الدروس وتدريبا من حضور الجلسات والحوارات وتطبيقاً من الأحكام والأوامر والتصرف ومضموناً من خلال المراسلات هاهو الإمام يكتب للملك عبد العزيز آل سعود وقد طلب منه الشيخ محمد بن عبد الله السالمي أن يزوده بخطاب للملك عبد العزيز، فإذا هو يقول (ولسان بيانه دليل حاله) لم يطل ولم يمدح بل وثق في منطق السالمي الذي تخرج من مدرسة نزوى السالمية والخليلية. لذا ربما قربني للشيخ سعود الخليلي أنني ملم بما يعز ويحترم وينتمي إليه، ثم هو قد عرف الوطن العربي وشخصياته ومعاركه ومدارسه من خلال عمله وجولاته ومحاوراته وقراءاته وكذلك العالم. وشخصي لا يخلو من متابعة البعض في شيء منه أو كلٍ ولعل الالتقاء في التحليل وتصور النتائج كان رابطاً لنا لأن البعض تراه متفقاً بالسرد مختلفا في استنباط النتائج وقد يطغى عليهم الارتباط القبلي أو المعرفي المتحيز، أما الشيخ سعود فقد مُيّز بالموضوعية وترفع عن العصبية فتراه كأنه قاضٍ لا يركن للهوى، يتلمس الموضوعية والقرائن الحقة لذلك هو حين يحاور لا يصطدم بالآخر وإن لم يتفق معه يقول: كان بمجلسه في بيروت مجموعة من تيار الحريرية، وحسين غباش فدار بينهما اختلاف وحوار. وكان الغباش قد تعصب لرأيه أو أظهر تثبته بما طرح أو بما يرى، وكأن الشيخ سعود ما كان يود أن يسير النقاش بمثل ما انتهي وقد أحسست عدم استحسان هذا التوجه خصوصاً وأنهما بمثابة ضيفين على لبنان وكلا الطرفين ضيفين على الشيخ السعود. ولا غرو في أن يكون الشيخ سعود كذلك وابن الإمام الخليلي وخريج مدرسته، فحين أراد الإمام أن يمّرن ابنه سعود في مدارس أخرى لم يوفده لشيوخ القبائل؛ بل أرسله إلى الشيخ أبي زيد الريامي والي وقاضى "بهلا" هذه المدرسة والتجربة المميزة والمتميزة في رؤاها ونظراتها الفقهية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يبعثه إلى آخرين نعرف أنهم لا يضاهون ولا يقتربون من أبي زيد. ولسنا بحاجة إلى التدليل على مكانة مدرسة أبي زيد الريامي لكنني أشير فقط إلى ما قاله الشيخ سعود (يقول: كنت شاباً والشيخ أبو زيد الريامي يراعي كل شيء فعمد إلى أن يرتب لي وجبة إطعام بُعيد الضحي فلما دخلت البيت وجدته قد أعد لي حليباً خالصاً وخبزاً فأكلت منه في ذلك الوقت لأن العشاء بُعيد الظهر وحيث إن الأمر يتكرر يوميا وأنا سأقيم فترة ليست قصيرة. وحتى لا يُظن أن أبا زيد يحابي ويكرم ابن الإمام، أحبَّ أن ينبه الحضور ويخبرهم، ويعلمهم. فقال وهو يأمره بالذهاب لتناول الوجبة للحضور بالبرزة. وللعسكر أننا نرسله للأكل الآن ليس لأنه ابن الإمام. لكنه شاب لا يحتمل أن ينتظر للوجبة المتأخرة. هذه مدرسةً الخليلي وهذه مدرسة ابي زيد التى اختيرت من الإمام ليتدرب بها الشيخ سعود بعيدا عن الإمام أبيه؛ لذلك لا عجب أن نجد هذا الرجل المميز. فما دخلت معه في استفسار أو استبيان أو موقف إلا وجدته للحق ألزم وللتمحيص أقدر وعن العصبية أبعد يستوضح ويتقين قبل أن ينهي إليك رأياً. ورغم هذا الاقتراب الوجداني بيننا إلا أن المكوث المتصل والتواصل المفروض بأوقات لم تسعفنا طبيعة حاله وظروف انشغالاتي فظل الاحترام والاشتياق للقاء هو مرتكزنا لما نحس به في الوجدان والالتقاء الروحي حتى قدر لي التفرغ حيناً وقد أصدر قرار تقاعدي فاتسع الوقت وقد خفت أعباء اللجان والاجتماعات، والأندية والاتحادات وخفف البعض عني أعباءً أخرى. وقدِّر أن استقر أخي الشيخ هلال السيابي، فالتزمنا الحراك معاً نزور هذا ونعود أؤلئك ونعزي في صديق مشترك أو رجل منهم أو منا. وكان الشيخ سعود الخليلي قبلتنا المشتركة ومسعانا الذى نسعي إليه وكأننا نروم سعياً مقدساً فنجلس معه الأوقات الطويلة قياساً بأشغاله ورواد ومراعاة لصحته التي تبدو ضعيفة. فإن نظرت لحركته وتغذيته وقوته تجد شاباً في كهولته؛ ذاكرته متقدة متدفقة حافظة للأحداث مفردات وجملا، يستبشر حين تذاكره وتتفتح أساريره ووجدانه وهو يراك تفتح له تاريخاً مضى كان هو جزء منه أو راوياً له أو مرجعاً به. شاء القدر أن يكرمني هو والشيخ المفتي الشيخ أحمد بن حمد الخليل في مارس 2019 بزيارة منزلي بمزرعة بركاء؛ حيث أمضينا أسابيع نقتنص فرصة تمكننا صحة الشيخين من جمعهما وكان الحرص من الشيخ أخي هلال السيابي أن لا ينفرد أحد أو يتأخر من القطبين ومن دعونا معهم وكان لقاءً سجله أخي الدكتور على بن هلال العبري بأبيات ألقها في حضورهم. كان الشيخ سعود قد تمكن منه الوهن الحركي فصعد بصعوبة لباب حائط البيت متكئاً على حاجز الأمان والاتكاء لمن في حاله عملناه في حينه وظل الشيخ يذكره وكأنه دين عليه حتى يخجلني ذكره، وحين تحلقنا على طاولة الطعام كنت لا أرغب في الجلوس على المائدة؛ بل أظل واقفاً أراقب وأخدم وهذه صفة تعلمتها من الشيخ صقر القاسمي فقد لاحظت ذلك في زيارة لي لبيته بمصر الجديدة بالقاهرة حين دعاني بواسطة الشيخ يحيى بن عبد الله النبهاني لاحظته يأبى الجلوس ويكاد لا تفتر حركته حول الضيوف يقدم لهذا ويضيف لآخر ويصب الماء ويدفع بمزيد من الأصناف. لكن هيهات أن يسمح الشيخ سعود أن أبقى واقفاً لعلي أشرف بخدمتهم أجلسني بجانبه فكنت على يساره وكان على يميني ويكاد لا يدخل جوفه نزر من الطعام مودته وحبه أثقلت عليه أن يكرمنا فيتكلف كل ذلك العناء والعنت فهل من فعل يماثل فعله وهل من إكرام يضاهيه. ومن سنجد بعده يحمل هذه الصفات. ثم أصر أن يكرمنا في بيته الذي حببّ البقاء به في أواخر حياته بعد أن قدمته زوجته أم أولاده، وهو بيت خصصه لولده طاهر فمد لنا مأدبة تكفي لكتيبة من القوم فلما تحلقنا صار يتساءل: أين عبد الرحمن؟ (يقصد عبد الرحمن بن إبراهيم) أين زهران؟ أين الأولاد؟ أين صحبك ومرافقوك؟، قلت للشيخ لم تنبهنِ لأدعو الأهل والجماعة، ثم يأتي أمر آخر يريدني وسط الجلسة وأنا أريده هو بالرأس لنكون أنا والشيخ هلال السيابي على يمينه ويساره وهل من قوة تدفعه عن قصده واختياره، وإذا بالشيخ هلال يضطر أن يجلسني حيث لا يرى الشيخ الخليلي إلا رأيه. من سيكلأنا بمثل هذا الخلق ومن سنجد مماثلاً له، أولئك أقطاب سمت أخلاقهم وصفاتهم وتناهى كرمهم وفي ظني أنهم الشيخ سعود، والشيخ طالب الهنائي، والشيخ صقر القاسمي، سبقوا بصفاتهم وكرمهم في أسرهم وفي بلدانهم وزمانهم. أيها الشيخ الخليلي وكأننا نحن أيتامك، من سينبؤنا بأخبار من سبق بأمانة بعد تمحيص وتدقيق وتثبت ومن سيُعطينا اليقين أن هذه الرواية صحيحة أو غير ذلك، من سيُبين لنا أن هذا الاتجاه هو الأقرب للحق والحقيقة ومن سنعود إليه نسترشد منه مسالك الحياة وكيف نتصرف في الحاضر وفي المستقبل، وكيف نمضي في طُرق الحياة الوعرة التي لا نقيسها بعقود عمرك؛ بل بمساحة معرفتك وخبرتك وتفردك، وبمجاهدتك في الحياة، وهل سيمكننا المرور إلى جانب جامع آل البيت ونحن على يقين أننا لن نجدك في الركن الشمالي الغربي منه.
مشاركة :