سالم العبري ... مع نهاية أغسطس قلت لأخي الشيخ هلال السيابي متى نذهب للشيخ سعود؛ كأننا تأخرنا قليلاً. قال لي: الشيخ بصلالة، وقد يعود خلال أسبوع.. أغفلت بعض الأيام ثم كلمته وإذا به مبسوط سعيد بمظاهر خريف صلالة؛ قائلاً: تعال، الجو بديع جداً. قلت لن أتمكن ولست مدفوعاً والجو الصحي بالبلد لم يستقر. كان دائم الكرم يدعونا لزيارته في أماكن قضاء جزء من صيفه. متخففا من طقسنا الذي أصبح ثقيلاً على الإنسان والكائنات وصار من حق عائب الصيف أن يجدد هجاءه وليرد عليه الشعراء المبدعون بمساجلات جديدة، فالعلامة إبراهيم العبري قد تصدى لمن عاب صيف زمانه: (يا عائب الصيف في سمط من الكلم** أقصر هديت فما في الصيف ذمم). كان رحمه الله دائماً يدعونا إليه؛ فقد دعانا للذهاب إلى بيروت عام 2018 وتهيأنا، واستخرجنا التأشيرات لدخول سوريا، وكاد الموعد أن يُحدد؛ لكن سفر الشيخ هلال السيابي إلى ألمانيا للعلاج أجَّل الزيارة ونحن توأمان لا ينفصلان. قلت للشيخ سعود: متى عودتكم لمسقط؟ قال أول الأسبوع القادم وفي الأسبوع التالي وعند منتصفه اتصلتُ به فإذا بهاتفه خارج الخدمة. تريثت أسبوعاً ثم كلمته الاتصال الأخير. قال عدت من صلالة بزكام شديد حتى ظننت أنه "كورونا" ففحصت فتبين أنَّه الزكام ولكنه ثقيل. لم نتفق على اللقاء القادم المشوق معه لكن بعد أيام أخذت رقم هاتف مُدير مكتبه للسؤال عن أمورٍ أخرى وعن وقت مناسب للشيخ فلم يرد وربما أعدت طلبه مراراً وفي الأخرى أجاب وكأنه آتٍ من ممارسة الرياضة يلهث قلت سلاماً يا دكتور محمد ماذا بك؟ قال أريد أن ألحق بالهاتف حتى لا ينقطع. ومن أين قادم؟ قال من مستشفى خولة حيث الشيخ سعود بالعناية المركزة لديه نزيف في الرأس. حينها أيقنت أننا لن نلتقي وأنَّه ملتحق بالرفيق الأعلى رغم تطمينات ترد من الطاقم الطبي، ولكن الحالة صعبة مؤذية. بعد وفاته كلمني الأخ عبد الرحمن بن إبراهيم وقال متعجباً إن الشيخ كلمه وضرب لهُ موعداً لزيارته فذهبت إليه وقد سُرَّ سروراً لا يوصف ثم وهو يودعني يكرر سؤالاً: هل أقدم لك خدمة؟ حتى وأنا بباب المصعد قلت له شكراً لك يا شيخ أنت ذخرٌ لنا جميعاً حين تشتد حاجتنا لن نأتي إلا إليك. ثم عجبت حين مرَّ علينا بدر التوبي وقال إنه قبل دخول الشيخ مرض الوفاة اتصل بالشيخ ياسر بن صالح التوبي وكأنه يودعه. ولا غرابة أن تحزن عُمان قاطبة على الشيخ فمن عرفه وعرف خلقه ودماثته واتساع أفقه ومعارفه. ندرك ذلك حين نذهب إليه بمكتبه نجده قد أَمَّه زائرون من مختلف محافظات عمان وقد لا نجد مكاناً للمكوث في فسحة صالون الانتظار، وقد يبدو لبعضنا حرج أن تدخل دون الآخرين المعتبرين فندخل قبلهم وقد يزحم المكتب إذا دخل الجمع كله وقد يصعب للبعض الحديث عن مناقشاتهم وحواراتهم مثلنا وقد يصعب لمن أتى لحاجة خاصة.. مكتبه كأنه صالات للمراجعين، أو هو مكتبه حين كان يتربع على كرسي الوزارة. مرَّ علي الأخ زايد بن خلفان العبري عضو مجلس الشورى عن الرستاق وأخذنا الحديث للسعي لإقامة وحدات خدمية تعليمية وصحية ذات نفع عام بعيداً عن منطق الربح كمن صور التعليم منجم ذهب له ولعائلته ولأمثالهم ممن يحلبون بقرة التعليم. قلت له سنذهب للشيخ سعود ليدعمنا بالرأي والتوجيه والدعم المالي الممكن وكان لهم سعي سابق مع بعض الشخصيات ولم ير النور لأن ما يسود الوطن ربح فاحش وليس بناء مؤسسات تعليمية وجمعيات تمويلية تذكرتُ أننا منذ حوالي العامين كنَّا ندخل على الشيخ سعود بمكتبه وهو يلملم أوراق خرائط بنائية. قلنا: ما هذا يا شيخ. قال: خرائط لبناء مجلس لنا إلى جوار جامع آل البيت. نظرت بالمخططات قلت سيكلف نصف مليون. قال: أكثر مما أتوقع. رصدنا له مليون ريال. قلت: يا شيخ، مجلس نصف مليون كثير عليه. دعنا نوجه نصف مليون لمؤسسة تعليمية، المجتمع أحوج لها من مجالس كبيرة فخمة. لكن حولنا الحديث حتى لا نتجادل أكثر من ذلك. تعجبت لمّا ذهبنا للعزاء، وكان بناء المجلس يقف شامخا مقابل مسجد آل البيت. تساءل الشيخ هلال ونحن بالعزاء لمَّ لا تجلسون بالمجلس؟ قالوا: لم ينته تأثيثه. دار بخلدي ما ركن بذهني من تشابه بين بعض الشخصيات القطبية، وإن كان بعضها لم يتسنم رئاسة وطن. لكن لهم صفة جامعة هذا هو الشيخ سعود يبني مجلسًا يليق بعزائه الجلل الذي يُتوقَّع أن يحضره القاصي والداني من أهل عُمان وخارجها، والذي تثبته الوقائع لاتساع التأثير للدولي لشيخ، وتشعُّب علاقاته الداخلية والخارجية، فأعد له عدة تليق به، والعُمانيون قد عدلوا عن السُّنة السابقة من إقامة العزاء بالمساجد والتخفف من آثار القهوة والطعام وصاروا يشيدون مجالس أشبه بالقصور وعمد الكل للمُباهاة والتسابق، يدفعون أموالا طائلة ويرهقون شركاءهم بسداد حصصهم المخصصة للبناء، وتوجيه إمكانيات طائلة لإتمامه على وجه يليق بالمفاخرة، وكان يلزم أن توجه للمرافق التعليمية والصحية. ها هو الشيخ سعود الخليلي يتماثل مع الرئيس جمال عبد الناصر، فقد ابتنى مجلسًا لم يُقم له به عزاء، وكذلك يبني جمال عبد الناصر مسجدًا بما يقدم له من بعض الخيرين ربما أرادوا بها سد حاجات أسرته التي يرونها متقشفة قياساً بحال تجار القارات، ودلالي وملاك النفط ومناجم الذهب. هم لا يعلمون أنَّ عيشة من أرادوا أن يكونوا قدوة للشعوب والأمم أن يكونوا كذلك. كان ناصر يكره مظاهر الفخامة والتشبه بعيشة القصور، والموائد الفارهة. قال لي ذات يوم طبّاخ في قصر القبة يدعى (عم عبده): كان جمال عبد الناصر يكره كل ذلك وتبرم من مكوثه بقصر الطاهرة، انتظارا للانتهاء من صيانة "الفيلا الصغيرة" التي عاش بها إلى مماته. فعاد ولم تنته بعدُ صيانة الفيلا، ها هو جمال عبد الناصر الذي قلتُ عنه: (يا ناصر الفقراء يا جداً لهم *** يا من بزهدكَّ تستنير شرائع). فقد كانت المنطقة الممتدة من (فيلا عبد الناصر) حتى فناء جامعة عين شمس خالية من إقامة جامع ملائم حتى إذا قدر له أن يضطر لصلاة الجمعة ومعه ضيوف من رؤساء دول انتقل لمسجد أبعد كثيرًا؛ فاضطر لبناء مسجد في منطقة إقامته من عطاءات أهل الخير، لم ينفقها في شراء قلائد أو حفلات زواج ضخمة، كما سار من أتوا بعده بعقد من الزمن لكنه لم يسعفه الموت فلم يفتتحه بل صار مرقدهُ الأخير. وكذلك الشيخ سعود لم يُقم له العزاء في مجلسه الذي ابتناه، وتركه معلماً بالمنطقة وذخراً لأهله. وداعًا يا أبا عبد العزيز، ورحم الله هذهِ الأقطاب التي نذكر ونستذكر.
مشاركة :