من أكثر الأمور التي تجعل الإنسان يعيش حياته وهو راضٍ عن نفسه غالباً هو أن يكون أكثر جديةً في تعاملاته مع تفاصيل تلك الحياة وعموميتها كذلك، ويكون ذلك عندما يعْظُم الهدف الذي من أجله خُلق ويُجلّه ويجعله هاجساً دائماً ويسعى إلى تحقيقه، وذلكم الهدف هو تحقيق العبوديّة الحقّة له تعالى فإنّه يقوم بذلك حق القيام وإذا نجح في ذلك فهو من أهل الجنة وإن غير ذلك فلا. ويكون أكثر جديةً حينما يستشعر قيمة الوقت الذي يعيشه، وانّه – أي الوقت – الحياة كلها، فيستغله ثانيةً بثانية وساعةً بساعة ويوماً بيوم، ولا يضيّع منه شيئاً في الغالب، بل تجده يعْمر أوقاته بما ينفعه ويفيده عند خالقه ثم عند نفسه ومجتمعه وأمته. الجديّة وأخذ الأمور بشيء من القوة توحي لك بأنّ صاحبها له آمال وأمنيات وطموحات لابد من أن يصل إليها، وأنه يتشوّف لعناقها، ويتمنّى كسبها كنتائج في حياته، فتجده لا يقف عن السير لها، ولا يحيد عن الطريق الموصل إليها، ولا يستمع لكل نداءٍ يلهيه عنها، وتوحي لك أيضاً بأنّ الإنسان الجاد والقوي وصاحب العزيمة يدرك أنّ هناك شيئاً من العقبات والفتن والأخطار ستقابله في مسيرته تلك أو ستوقفه عن بلوغ أمانيه فتجده من جديّته وقوّته يستطيع أن يقابل تلك الأخطار والعقبات ويتعامل معها حسب ما يراه، فيتجاوز بعضها ويُزيح بعضها ولا يلتفت أحياناً للبعض الثالث وهكذا. صاحب الحياة الجديّة يشعر وهو يعيش حياته بأنّ هناك أموراً كثيرةً تتغيّر و تتحسّن إلى الأفضل فأخلاقه تتغيّر للأفضل وتعليمه كذلك و فهمه للحياة وعلاقاته مع البشر ولم يحصل له ذلك التغيّر الذي يشعر به لولا جديّته التي جعلها له قيمة في حياته، فلم تُجبره على الوقوف أو الجمود أو الانقطاع بل دفعته إلى أن يغيّر من وضعه تماماً ويشعر بذلك بل ويسعد به ويفرح، ولم تدعوه للتسويف والتأجيل بل للمبادرة والعمل، ولا للتواكل والانسحاب بل للإعتماد على نفسه وخوض غمار الحياة، ولا للضعف حيال المواقف أو التهرب منها بل للمواجهة والمباشرة. الجديّة تجعل صاحبها ذو تعامل راقٍ مع الجميع.. أسرته وأصدقائه وجيرانه وأفراد مجتمعه، فتسوقه تلك الجديّة على أن يحب لهم ما يحبه لنفسه، وأن يدعوهم لكل خير وفضيلة، وأن يُعطي كل ذي حق حقّه خاصةً لمن لهم عليه حقوق البر والرحم والجوار وغيرهم، وأن يبادلهم النفع والفائدة التي تصلح للجميع، وأن يعاملهم بالوفاء والنقاء، وأن لايقف بينهم سلبياً جامداً لانفع منه لهم ولا خير، وكل تلك الصور تجعل له مكانةً كبيرةً في صدورهم، وتكسبه منزلةً عظيمةً بينهم، وتميّزه بأن يكون قدوةً صالحةً لهم فيتأثرون به ويعتمدون عليه ويقتدون بأثره كل ذلك لمّا كان أكثر جديةً في التعامل معهم. الجديّة تجعل صاحبها يهتم بأن يكون أكثر دقةً وإتقاناً في جميع أعماله التي يقوم بها غالباً لأنّه يحب الكمال وأن كان لن يبلغه غالباً، ويريد أن يكون مبدعاً في مشاريعه وبرامجه وعلاقاته وتعاملاته، ومثل هذا النمط أخطاءه قليلة جداً وتقصيره غالباً يكون بسيطاً أو قد لا يكون هناك تقصير مطلقاً، لأنّ جديّته تسوقه لذلك الإتقان والإبداع والاحتراف. ومن فضائل الجديّة على صاحبها أنها تجعله دائماً في مواطن الفضيلة والخير والمعروف، وتصعد به على منابر العز والشرف، وتسمو به في مراقي الوفاء والوقار، وتربأ به عن دوائر الشبهات والشهوات والمتع الزائلة واللذائذ الفانية، لأن جديّته تلك لا ترضى له الهوان والإهانة مطلقاً. الجديّة تسوق صاحبها لأن يكون إيجابياً في مواقفه كلها، وله نفس توّاقه لكل هدف نزيه وعالٍ، وله نَفَسٌ طويل من الصبر والمجاهدة والجَلَدِ للتعامل مع جميع ظروف الحياة، وله نظرة بعيدة يسمو بها عن أنظار من حوله، وله قلب لا يسكنه إلّا كل نيّة صالحة وقيمة هادفة وخُلق قلبي طاهر فلا يغش ولا يحسد ولا يكره ولا يحمل غلّاً على أحد من إخوانه، وله جوارح يسخّرها في أن لا تقول ولا تنظر ولا تسمع إلا الحق، والحق فقط، وله خطط وأهداف وبرامج ومشاريع في حياته بشكل عام تكون له نتاجاً و كيانات في حياته، وآثاراً وبصمات خير له بعد مماته. هذه مجموعة من آثار الجديّة على صاحبها وفضائلها عليه، وأرجو أن لا يُفهم أنّ الجديّة التي أتحدث عنها هي التشدّد والغلو والتضييق على النفس أو على الناس أو أنّها المثاليّة في كل شيء، أو أنّها التعامل مع الناس برسميّة زائدة وحضور يشوبه التكبّر على الآخرين، أو أنّه التصعّر بالخدّ، أو المشي في الأرض مرحاً، أو إظهار القوة في الكلام أو غيره، أو التلفّظ بعبارات جارحة أو غير مفهومة توحي للنّاس بأنّ صاحب هذه الكلمات كبير أو محترم أو قوي وهو غير ذلك في الأساس، أو التمظهر بلبس أو غيره، أو التقّعر والتشدّق حال الحديث مع الآخرين، أو الوقوف عند كل خطأ، أو معاقبة كل أحدٍ وتهديده وتخويفه…الخ… أبداً .. ليس هذا ما أقصد.. ما أقصده أنّ الجديّة التي أتحدث عنها هي الجدّية المتّزنة المتوازنة التي تجعل صاحبها وسطيّاً في دينه وحياته، فلا هو صاحب جمود وانغلاق ولا هو صاحب انفتاح مذموم وتمرد، ولا هو ممّن يقدّس المثاليّة والفوقيّة لكنه لا يحب السلبية والانحلال الأخلاقي، ولا هو يميل للهو والعبث لكنّه يؤمن بالمرح المنضبط والمزاح الغير مبالغ فيه، وهو بين اهتمامه بنفسه وصقله وتزكيته لها وبين اهتمامه بأسرته وتربيته لأبنائه وأبناء مجتمعه وهكذا. نحن بحاجة ماسّة لأن نتربّى على الجديّة المنضبطة والالتزام الحقيقي وليس الأجوف، والقوة في أخذ جميع أمور حياتنا دون إفراط أو تفريط، خاصةً في وقتنا هذا الذي كثُرت فيه سُبُل الانحراف وطرق الشيطان ونداءات أتباعه من كل حدب وصوب، ولأن الجديّة تُعَدُّ حاجزاً قوياً بين صاحبها وبين كل ما يؤثر سلباً على دينه وأخلاقه وحياته عموماً.
مشاركة :