الانسان الفرد محشور بين الولادة ونقيضها، وهو محكوم عليه بينهما، لا مفر له منهما ولا ارادة له فيهما، هذا هو القدر البيولوجي للانسان. الطبيعة بجهازها البيولوجي تولد الانسان وتبعثه الى الوجود، وتغيبه بعد حين.. وهذه هي السنة الحتمية المحكومة على الانسان. عندما يغيب انسان عن الحياة فإن غيابه يترك آثارًا متفاوتة بين حدود ضيقة وآفاق واسعة، فمن كانت حياته لنفسه وفي دائرته الضيقة، مثل غالبية الناس، ليس كالذي كرس حياته في دائرة اوسع تشمل المجتمع كله واهتمامه بقضايا المجتمع خدمة لابناء وطنه، وقد تمتد هذه الخدمة، الفكرية في اساسها الى خارج حدود وطنه ليشمل المحيط الاقليمي او القومي او الديني.. عندما يغيب عن الوجود مفكر كبير له اسهامات تتناول قضايا الانسان واجتهادات فكرية في ايجاد حلول لتلك القضايا، فإن غيابه يمس قاعدة واسعة في مجتمعه وحتى في ما وراء مجتمعه. يوم الخميس الموافق 21 اكتوبر 2021 توقف جهاز التنفس عن دفع عنصر استمرار الحياة في بنية المفكر المصري حسن حنفي، فتوقف كل شيء في جسمه وانغلق الباب على عقله الذي كان شعلة من الفكر ينير الدرب لابناء مجتمعه، وكان لتلك الشعلة امتداد يغطي العالم العربي كله، وله فيها اتباع ومؤيدون لنهجه اليساري-الاسلامي، فهو احد ابرز منظري تيار اليسار الاسلامي. بمجرد ان توقف الدكتور حسن حنفي عن الانتاج الفكري، بانتقاله الى عالم ما وراء هذا الوجود وتسلم ابناء الجيل النشط العامل اليوم رسالته او مشروعه الفكري، تناقلت الصحف والمجلات على كامل التراب العربي الخبر بحزن شديد وهي تستعرض سيرة حياته واسهاماته الفكرية في مشروعه الوطني-القومي-الاسلامي. جميع الذين يتابعون قضايا العصر، في العالم العربي ويناضلون من اجل مشروع حضاري - حداثي، حزنوا لغياب احد المناضلين في ساحة الفكر والساعين للوصول الى آفاق الحداثة ومتابعة السير في ركب الحضارة المتجددة، حزنوا عليه رغم اختلافهم معه في اختيار الممر الذي من شانه ان يؤدي الى الهدف المشترك المنشود، فقد نعاه الكاتب والمفكر السعودي ابراهيم البليهي بهذه الكلمات، وهي فاتحة مقاله: «إن حياة هذا العالم المفكر نموذجٌ على الاستغراق العميق في البحث والاستقصاء والانتاج، إن مؤلفاته تملأ رفًّا كاملاً.. ولكنه مات وهو يشعر بخيبة أمل عميقة فقد خاب أمله في الناس فامتلأت نفسه بالكمد.. وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع أطروحاته فإنه يستحق التقدير على اهتمامه المستغرق، وجهده الصادق، وإنتاجه الغزير...». المفكر السعودي ابراهيم البليهي له ممره الخاص، بمدرسته الفكرية الخاصة، الذي يرى انها الانجع والاسرع للوصول الى المشروع المشترك وتحقيق الحداثة تحت سقف الحضارة المتجددة، وهو رغم اختلافه مع الدكتور حسن حنفي الا انه كتب عن الفقيد أحر الكلمات المًا وأجمل الكلمات احترامًا وتقديرًا، وهذا الاحترام والتقدير المتبادل، رغم الاختلاف، هو الامل في تلاقي المدارس الفكرية المتعددة على ممر مشترك للوصول الى المشروع المشترك. الفقيد مثل رفاقه في النضال الفكري والمشاريع الحضارية، امثال الدكتور محمد عابد الجابري والدكتور محمد اركون وابراهيم البليهي وقبلهما جيل طه حسين وسلامة موسى، نتاج ما يعتمل في المجتمع والدولة والاقليم من قضايا واشكاليات تتجاذب وتتفاقم بفعل العناصر الداخلية المعرقلة والعناصر الخارجية المتنفذة. من اهم القضايا التي يتناولها كل هؤلاء المفكرون هو التوفيق بين التراث والحداثة. في عالمنا العربي خاصة والاسلامي عامة، بين التراث والحداثة ممرات عديدة وتقاطعات قليلة ونهايات غير موفقة، وكل هذه الممرات لم يكتب لها بعد النجاح لبلوغ الهدف المنشود، وهو الحداثة، والحداثة التي يعمل هؤلاء المناضلون، في ساحة الفكر، على تحقيقها قد اصبحت من الماضي في الدول التي نبتت فيها الحداثة واثمرت واينعت ومن ثم جاء موعد نبتة جديدة اكثر ثمرًا واكثر ملائمة لما استجد خلال عمر الحداثة التي ادت دورها وآن لها ان تنتقل الى ما بعدها وما هو ارقى منها. الحداثة المتأخرة عندنا لا يمكن بلوغها قبل ان نتخطى القضايا والاشكاليات التي تعرقل التقدم، حتى نتمكن من طرق ابواب الحداثة، فالمشروع الفكري النهضوي، لدى كل المفكرين معهم الدكتور حسن حنفي، امام جدار مانع لا بد من تخطيه او تحطيمه، وإلا فسيكون «خيبة الامل وامتلاء النفس بالكمد»، حسب تعبير المفكر ابراهيم البليهي، هو العامل المشترك مع اصحاب المشروع المشترك.. عدم التوافق او التوفيق بين هؤلاء المفكرين اصحاب المشاريع التنموية والحضارية يعد من بين العناصر الداخلية المعرقلة لتخطي القضايا والاشكاليات التي هي في صلب الاهتمامات والمسؤوليات التي يتبنونها ويعملون على ايجاد حلول لها.. لكل مفكر مدرسته وخطه وممره، بمعنى ان الناس المستهدفين من هذه المدارس والافكار، بغية تنوير طريق الحداثة امامهم، يعيشون في تشرذم وارتباك وجدال يتلاطمون بالمنتجات المتعددة والمختلفة، بعضها عن بعض، ويدورون في حلقات حلزونية تتعمق ولكنها لا تتقدم. لهذا السبب كان تعبير المفكر ابراهيم البليهي دقيقًا وتشخيصيًا عندما قال: «... ولكنه مات وهو يشعر بخيبة أمل عميقة فقد خاب أمله في الناس فامتلأت نفسه بالكمد..». خيبة الامل والكمد اساسهما التجاذب المتواصل دون انقطاع بين التراث والحداثة، واختلاف الرؤى اساسًا في موضع التراث من الحداثة، مفكرون تدفعهم العاطفة المكنونة الى التمسك بالماضي، اي بالتراث، ولا يمكنهم قبول حداثة تجردهم من ماضيهم، وعلى النقيض من هؤلاء هناك من المفكرين من يرى ان التراث اصبح تاريخًا وليس له مكان في رسم خطط طريق الحداثة، وبين هؤلاء واولئك تيارات اخرى يتجاذبها التراث والحداثة بنسب متفاوتة، فمن هؤلاء من يعطي الاولوية للتراث ومنهم من يري نقيض ذلك. المشروع النهضوي في حاضر عالمنا العربي، من اجل طرق ابواب الحداثة، يقف حائرًا ومجادلاً وشبه مرتبك بين التراث والحداثة، وهذا الوقوف بحد ذاته حائط معرقل بين العراقيل الذاتية الاخرى، يمنع اتخاذ اية خطوة عملية صحيحة ناجعة في الاتجاه الى فضاء الحداثة. وطالما التجاذب بين التراث والحداثة باقٍ، فإن المشروع النهضوي، المشترك بين جميع المفكرين، يبقى حلمًا لا يتخطى حبره سطورًا على صفحات الكتب، وحاله حال دون كيشوت وصراعه مع الطواحين.
مشاركة :