أبعــاد الإنسـان في مشــروع سلطــان الفكري

  • 11/4/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

إن الحراك الفكري والثقافي الذي تفاعل معه الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، وهو طالب جامعي في القاهرة، كان الدافع القوي إلى سعي الشيخ الشاب لوضع عصارة جهده وفكره في تأسيس ما يجعل من الإنسان في منطقة الخليج العربية - التي عانت التهميش والعزلة والانعزال لسنوات طوال بفعل الاستعمار - قيمة عليا، فلقد توضح للشيخ، وهو في قلب ازدهار الثقافة العربية، أن القيمة العليا للثقافة هي في خدمتها للإنسان، وفي إنسانيتها قبل أي شيء آخر.. ومن هنا نفهم شعار الشارقة: كفانا من ثورة الكونكريت، ولنتحول إلى بناء الإنسان باعتباره خلاصة فكرية تتوجه إلى مشروع يُعنى أول ما يُعنى بالإنسان وبنائه الثقافي الفكري في مراحل ما بعد الاستعمار وانطلاق مشروع الثقافة الوطنية والقومية في بلدان العالم العربي.. وبمعنى انحياز الثقافة إلى الإنسان ومجتمعه وتنويره بعد فترة من ظلمات فرضها المستعمر في مشارق ومغارب بلاد العرب. الشيخ في فترة إقامته في القاهرة في الستينات خالط أهل الثقافة والفكر، واهتم بمجالات الثقافة كافة، بحيث استفاد من تجربة ثقافة حية نهضت ضمن مشروع قومي عروبي اهتم بالأصول والفروع، بالأصالة والمعاصرة، بالتراث وبالتجديد، وشارك الشيخ الشاب في جدل الثقافة والمجتمع الذي كان بوتقة لجيل من أبناء العروبة من مشارق ومغارب العالم العربي، فكان ضمن غير قليل من طلاب خليجيين تشاركوا مع إخوة لهم من المغرب العربي وبلاد الشام في التفاعل مع ثقافة وطنية وقومية في ستينات القرن الماضي ومع تعليم ينفض عنه غبار السنين ليدخل في الحداثة والأخذ الواعي من التعليم الغربي، فعلموا وتعلموا النضال من أجل فلسطين، وتألموا لنكسة عام 67، وتعرفوا إلى كتب قيمة ومثقفين عضويين من طراز الأوائل والرواد الذين كانوا نموذجاً ومثالاً للأديب والمثقف والمفكر الذي يبذل النفس في سبيل الوطن والعروبة والإسلام والإنسان بقيمه وأخلاقه ونبله. عندما عاد الشيخ الشاب إلى الشارقة في مطالع السبعينات كانت الشرارة التي شغلته كثيراً هي بناء الإنسان في بلده، بل وفي الخليج، بل وفي العالم العربي الإسلامي المتحرر من العبودية والظلام (فعلمه نور)، الإنسان القادر على رؤية واقعه وتحليله والتعرف إلى آفاق مستقبله بعد قراءة الاستعمار في بلده. الثقافة التي تبقى إرثاً جماعياً يواجه التغير المتسارع عالمياً - يقول الشيخ الدكتور القاسمي - وهو على مشارف الاحتفال بالشارقة عاصمة للثقافة الإسلامية في السنة الهجرية 1435 (2014م). ‮‬وما تحويه الثقافة من أشكال مختلفة كالفنون والتراث والآداب تُعد في‮ ‬مجملها موارد‮ ‬غنية تساعدنا على حقيق شيء من مهامنا اليومية وتشجعنا على الإبداع والابتكار‮.‬ وهو حاكم،‮ ‬في‮ ‬أواخر السبعينات أطلق الشيخ الدكتور سلطان القاسمي‮ ‬شعاره‮ ‬لنتحول إلى بناء الإنسان‮‬،‮ ‬إذ كان‮ ‬يرى في‮ ‬البلد الناهض إلى البناء والتعمير والتنمية بعد قيام دولة‮ ‬الاتحاد‮ ‬الذي‮ ‬تشكّل من‮ ‬سبع إمارات‮‬،‮ ‬مجاله لوضع الثقافة و(التعليم‮) ‬في‮ ‬سلم أولويات تنمية الإنسان،‮ ‬ومن هناك سعى إلى مشروعه الثقافي‮ ‬الذي‮ ‬يعنى بالنهوض تنمية ثقافية للمواطن والوطن،‮ ‬بحيث تنبني‮ ‬عبر السنين بنى ثقافية عضوية‮ ‬يفيد منها المواطن وعياً‮ ‬ومعرفة وتربية تليق بالوطن‮. ‬وكان أن اهتم الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي،‮ ‬وهو على حكم الشارقة،‮ ‬بالثقافة في‮ ‬مجالاتها كافة،‮ ‬فبنى المراكز الثقافية والمتاحف ومراكز الأطفال والفتيات والمسارح وقاعات المعارض،‮ ‬وأسس للمعرفة والكتاب بتنظيم المعارض والمنتديات والمؤتمرات،‮ ‬واهتم بالآثار والمتاحف والتراث والفلكلور وثقافة الطفل و المرأة وغيرها، مما‮ ‬يغني‮ ‬ويثري‮ ‬ثقافة المواطن والوطن،‮ ‬وكان شديد الإيمان بارتباط الثقافة بالمعرفة والتعليم والتراث وسؤال الهوية،‮ ‬حرصه على التفريق بين عالمية‮/ ‬إنسانية الثقافة وعولمة الثقافة التي‮ ‬منذ الثمانينات بدأت تتمكن من مجتمعات العالم الثالث ومنظومة دول الخليج العربية‮، ‬شعر رجل الحكم والثقافة بكل متغيرات العالم الاقتصادية والسياسية التي‮ ‬تنامت وانتشرت بغية التحكم في‮ ‬ثروات وأسواق الكون،‮ ‬ولم‮ ‬يقف سلباً‮ ‬حيال هذا،‮ ‬بل واجهه وتوسّع في‮ ‬تحديه بغية تقليص أضرار العولمة الثقافية على المساحة العربية والإسلامية والعالمية واجتثاث سوالبها من براثنه،‮ ‬فبرزت الشارقة بثقافتها الإنسانية في‮ ‬المحافل الدولية،‮ ‬كما أفرز جهده داخلياً‮ ‬لقيم المطالعة والقراءة حيزاً‮ ‬كبيراً‮ ‬ببناء شبكة مكتبات ومعارض للكتب أمّها القاصي‮ ‬قبل الداني،‮ ‬فأصبح معرض الشارقة للكتاب منتدى معرفياً‮ ‬وفكرياً‮ ‬وثقافياً‮ ‬لا‮ ‬يغفله المنشغل بثقافة العالم العربي‮ ‬في‮ ‬تفاعلاته مع ثقافات العالم‮.. ‬آمن بالانفتاح الواعي‮ ‬وفسحة الخيارات والاختيارات من ثقافة متعولمة‮، ‬ولعل في‮ ‬الاطلاع على مؤلفات الشيخ الدكتور سلطان القاسمي‮ ‬ما‮ ‬يؤشر إلى كبير اهتمام بأنسنة الثقافة وبعضوية المثقف في‮ ‬مجتمعه وبعالمية الثقافة لا عولمتها‮. ‬فكان بروز الشيخ الدكتور سلطان القاسمي‮ ‬في‮ ‬المجال العالمي‮ ‬كداعية لثقافة عالمية إنسانية‮، ‬لأجل هذه الجهود مجتمعة حازت الشارقة اختيارها عن جدارة عاصمة إقليمية للثقافة العربية في‮ عام‮ ‬8991م،‮ ‬وعاصمة للثقافة الإسلامية لعام‮ 4102م،‮ ‬عاصمة للتعايش الواعي‮ ‬وللتسامح الإيجابي‮ ‬وللتحاور والاشتغال على الفهم المشترك والتعددية‮.‬ ليس هذا فحسب،‮ ‬بل لابد من نظر ما‮ ‬يفكر به الشيخ الدكتور سلطان القاسمي،‮ ‬فهو في‮ ‬أطروحته للدكتوراه الموسومة‮: ‬أسطورة القرصنة العربية في‮ ‬الخليج‮ ‬كان قد انطلق من رؤية أن الاستعمار إن نظر إلى شعوب العالم الثالث،‮ ‬فهو‮ ‬ينظر من علٍ،‮ ‬نظرة القوي‮ ‬إلى الضعيف،‮ ‬فلقد ادعت الإمبراطورية التي‮ ‬لا تغيب عنها الشمس أن‮ ‬القواسم‮ ‬ــ في‮ ‬منطقة الخليج ــ كانوا‮ ‬يسلبون السفن التجارية في‮ ‬المنطقة،‮ ‬بل وفي‮ ‬أعالي‮ ‬البحار،‮ ‬فسموهم‮ ‬قراصنة‮ ‬بينما هم في‮ ‬حقيقة الأمر كانوا‮ ‬يدافعون عن حقوق لهم‮.‬ تابع الشيخ الدكتور القاسمي‮ ‬الاستعمار بأشكاله ومصادره في‮ ‬العالم العربي‮ ‬والقارة الآسيوية وإفريقيا،‮ ‬ودرس مناهجه وغاياته ووسائله وأساليبه حتى‮ ‬يتمكن من فضحه وتعرية وكشف ألاعيبه في‮ ‬فترة مهمة من تاريخ الإنسان الناهض إلى التحرر والحرية وبناء الأوطان‮.‬ إن صراعات القوى الكبرى في‮ ‬المنطقة الآسيوية، كما في‮ ‬المنطقة الإفريقية، كانت صراعات للمصالح التي‮ ‬لا‮ ‬يمكن تركها للقوى الصغيرة ولأصحاب الحقوق فيها،‮ ‬بل لا بد أن تنتزع عنوة لمصالح الغرب،‮ ‬الشيخ الدكتور سلطان القاسمي‮ ‬نظر إلى تاريخ الاستعمار في‮ ‬المنطقة فوجد أن صورة العربي‮ ‬والمسلم بل وصورة النضال الوطني‮ ‬من أجل الحرية والاستقلال،‮ ‬قد شوهت واختزلت إلى قرصنة،‮ ‬فما كان منه إلا أن تكرّس كمؤرخ وطني‮ ‬لإجلاء الصورة وتوضيح الحقائق وتبيين الفرية الاستعمارية الكبرى حول أهله القواسم،‮ ‬بل وعرب الخليج والمنطقة الآسيوية ‬الذين عانوا ما عانوا من الإنجليز،‮ ‬فأصدر أطروحته باللغة الإنجليزية ثم باللغة العربية‮ (‬القواسم والعدوان البريطاني‮)‬،‮ ‬كما تابع الشيخ الدكتور هذا النهج في‮ ‬كشف الاستعمار في‮ ‬المنطقة فكتب عن‮ ‬سقوط الإمبراطورية العمانية‮ ‬بسبب صراعات ومصالح القوى الغربية في‮ ‬المنطقتين العربية والإفريقية،‮ ‬وكتب أيضاً‮ ‬حول سقوط عدن في‮ ‬الاحتلال البريطاني‮ ‬لعدن‮ ‬بل وذهب إلى التاريخ البرتغالي‮ ‬الإسباني‮ ‬في‮ ‬المنطقة، ففضح سيرة‮ ‬أفونسو البوكيرك‮ ‬في‮ ‬كتابه القيّم‮ ‬الحقد الدفين‮‬،‮ ‬وهكذا عمد المؤرخ إلى مواجهة خطط الاستعمار في‮ ‬المنطقة العربية وأظهر بالوثائق التي‮ ‬لم‮ ‬يدخر وسعاً‮ ‬في‮ ‬الحصول عليها، كيف شوه المستعمر صورة العربي‮ ‬والمسلم في‮ ‬المنطقة كما في‮ ‬كتابه الآخر‮ ‬صراع القوة والتجارة في‮ ‬الخليج‮. ‬وعندما تناول تاريخ الإمارات الحديث، وتشكّل دولة الإمارات العربية المتحدة في‮ ‬مؤلفه ذي‮ ‬الأجزاء الثلاثة‮ (‬حديث الذاكرة‮) ‬أبان صراعات ما قبل قيام دولة الاتحاد،‮ ‬وكيف أمكن لرواد الاستقلال بقيادة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تقويض كل مشاريع المستعمر بتحالفاتهم ثم اتحادهم في‮ ‬دولة متحدة مستقلة منحازة إلى العروبة والإسلام‮.‬ ولم‮ ‬يقف الشيخ الدكتور القاسمي‮ ‬عند هذا الحد،‮ ‬بل تطلع إلى الغرب في‮ ‬عواصمه المختلفة،‮ ‬فذهب إلى هناك بمشروعه الثقافي‮ ‬للتحاور والحوار وإظهار ما لدى العربي‮ ‬من وعي‮ ‬وفكر وثقافة،‮ ‬فنظم الأيام الثقافية للشارقة في‮ ‬مدن وعواصم‮ ‬غربية عديدة بهدف إطلاع الإنسان هناك على حيوية الثقافة العربية وتجددها ومعاصرتها وأصالتها،‮ ‬وذلك من منطلق الانفتاح على الآخر،‮ ‬والذهاب بالثقافة إلى حيث‮ ‬يتوجب وإلى حيث‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تكون فاعلة‮.. ‬وكذلك عمل على استقدام التجارب الإنسانية من كل مكان إلى الشارقة لمزيد من التفاهم الإنساني‮ ‬والتسامح والتعايش الضروري‮ ‬بين الثقافات‮.‬ ولعل مشروع‮ ‬ثقافة بلا حدود‮‬،‮ ‬الذي‮ ‬يرسّخ للقراءة بتوفير مكتبة في‮ ‬كل بيت تضم مجموعة‮ ‬غير قليلة من الكتب القيّمة للأسرة،‮ ‬هو في‮ ‬جوهره مشروع لبناء إنسان في‮ ‬متناوله المعرفة والعلوم،‮ ‬تتحقق فيه رسالة‮ ‬اقرأ‮‬،‮ ‬فالعلم نور،‮ ‬ويمكن له أن‮ ‬يقرأ الشعوب والدول فيدرك صورهم ويفهم ما لهم وما عليهم،‮ ‬وبفهم كهذا‮ ‬يدرك الإنسان ماهية الآخر وما‮ ‬يتوجب أن‮ ‬يؤخذ بالحسبان عند التعامل مع الآخر‮.. ‬وهذا ما خلص إليه الشيخ الدكتور القاسمي‮ ‬عندما افتتح برامج أيام الشارقة الثقافية في‮ ‬لشبونة،‮ ‬إذ قال‮: ‬إن الحضارة الإنسانية نسيج واسع متعدد الأطياف،‮ ‬تتفاعل فيما بينها بأنماط ونتائج تتباين مع اختلاف الزمان والمكان‮ (....) ‬تقبل الفروق بين جميع الثقافات‮ (...).‬ يخلص مشروع الشارقة الثقافي‮ ‬إلى التأكيد الصريح على تقبل الفروق بين جميع الثقافات،‮ ‬والتأكيد على وحدة الإنسانية مهما اختلفت الأجناس والعرقيات‮ (...) ‬والقول‮ ‬يعود للشيخ الدكتور سلطان القاسمي‮ ‬الذي‮ ‬يشير إلى زمان كانت فيه الأندلس‮ ‬واحة لتعايش الأديان والحضارات وانتشار المعرفة بين الشعوب وازدهار الآداب والفنون التي‮ ‬نرى تأثيرها حولنا حتى‮ ‬يومنا هذا‮.‬ ‮* ‬جزء من كتاب‮ ‬عمار الروح‮ - ‬في‮ ‬شأن ثقافة الشارقة‮‬ يصدر عن منشورات دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة بالتزامن مع المعرض

مشاركة :