تبدو مهمة الإعلام في أيامنا هذه مشوهة ومرتبكة وفاشلة، إن لم نقل مغرضة ومحرضة أيضا، ففي سنوات ليست كثيرة، انتقل الإعلام من مربع إلى آخر بسرعة كبيرة واتسعت آفاقه وتشعبت اتجاهاته المتنوعة حتى بات مع الأسف اقرب إلى المتاهة منه إلى الإعلام الحقيقي والرسالة الإعلامية السامية الموضوعية. الحصون الأمنية والاقتصادية للدول قد لا تصمد أمام الإرهاب الإلكتروني والقرصنة «الذكية» ومع أن هذا التطور لامس الإعلام في العالم اجمع، إلا أن ما يؤسف حقاً أن منطقتنا كانت من أكثر الساحات التي تأثرت سلباً بالإعلام المغرض والمفلس أيضا الذي لا يمكن وصفه أبدا إلا بالسموم التي تنثر في الهواء لإفساد الطبيعة والعقول أيضا. منذ سنوات عديدة كانت الدول العربية تبث إعلاماً موجهاً ومدروس الأهداف والغايات، رغم تحفظنا على هذه الأهداف أحيانا، إلا أننا لا نستطيع ان ننكر ان هذه المرحلة في تاريخ الإعلام العربي، التي كان فيها الإعلام رسميا بامتياز. ورغم كل ما عانته من مشاكل مهنية، إلا انه حافظ إلى حد ما على رصانته أو لنقل الحد الادنى من الرصانة والمصداقية، فقبل انتشار وسائل الإعلام الخاصة وانتشار القنوات التلفزيونية التجارية والاستثمارية، كانت الرسالة الإعلامية منضبطة ولو بشكل معقول بضوابط أخلاقية، تفرضها هذه الدولة أو تلك، ناهيك عن الضوابط السياسية الملتزمة بالعرف والمنهج التي كان لابد للدول من وضعها بسبب حساسية دور الإعلام وأهميته في العلاقات بين الدول والمجتمعات. إلا انه مع الأسف ومع انتشار آلاف الوسائل الإعلامية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والثورة الفعلية في عالم الاتصالات، اختلط الحابل بالنابل وعبر إلى ساحة الإعلام أناس لا يمتون بصلة إلى هذا المجال، ناهيك عن الدور الذي لعبته وسائل الإعلام ذات الطابع الحزبي في زيادة الطين بلة عندما راحت تستخدم الوسائل الإعلامية أسوأ استغلال لتسويق افكار ومفاهيم جديدة وخطيرة على الفرد والمجتمع وحتى قيم أخلاقية معينة وسلوكيات غريبة قد تعطي نتائج كارثية إن لم تقدم بعناية وبانضباطية وان لم تراقب بشكل مسؤول ومهني واحترافي. هذه المقدمة في الواقع ليست إلا مدخلاً لبحث تلك الازمة الموضوعية والذاتية التي بات يعاني منها الإعلام العربي والعديد من الإعلاميين العرب حيث تسلق على سلم الإعلام أناس مغرضون لا هم لهم إلا تسويق الأفكار المغرضة الخبيثة وتشويه الحقائق والعبث بالثوابت، كنشر الكراهية بين الناس، أو زرع بذور الطائفية البغيضة في المجتمع، أو الترويج لأفكار سياسية غريبة ودخيلة على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تهدف إلى إلحاق الأذى بالمتلقي وتسخيره في اتجاهات خاطئة. وتزداد المشكلة خطورة مع فتح مواقع التواصل الاجتماعي الباب لكل من أراد أن يدخل من دون حساب أو رقيب، فراح البعض يدلي بدلوه، كأنه يكتب على ورق الحائط أو يعبر عن رأيه داخل دورات المياه بشخابيط صبيانية ومقززة من غير مسؤولية أخلاقية تردعه أو انضباط مهني يحتم عليه احترام ذائقة المتلقي، وباتت مع الأسف هذه المواقع التي تهدف إلى التواصل بين الناس أو (الفرقة) بين الناس، عوامل فرقة وكراهية وتحريض طائفي بغيض، الحق بالأمة أفدح الخسائر الجسيمة بتركيبة نسيجها الاجتماعي والتضرر بهويتها الوطنية، وذهب بها في اتجاهات جد خطيرة، فاتحاً الباب واسعا امام الحروب الطائفية والصراعات المذهبية والفكرية والعرقية والسياسية، والأيديولوجية بدلاً من ان تكون وسائل تجميع ونشر ثقافة الوعي، ومنابر حوار متمدن حضاري لتعزيز العصف الذهني، يفتح باب التواصل بين الناس ويؤطر علاقاتهم بشكل مفيد ونافع. فالإعلام كما هو معروف أسلوب منظم وخطير وسلاح ذو حدين يستخدم للتأثير على جهة ما في سبيل زرع أو دعم أو إزالة فكرة أو عمل ما، بالإضافة إلى ذلك أن الحرية المتاحة في مواقع التواصل الاجتماعي والمساحات الواسعة بدون رقيب، وإمكانية الدخول إلى هذه المواقع بأسماء مستعارة، تشجع بعض المغرضين وضعاف النفوس على الاعتقاد بإمكانية التحلل من المسؤولية من كل ما ينشرونه من مواد إخبارية أو إعلامية أو دينية أو سياسية أو فكرية أو أخلاقية، وهو أمر خطير يذهب بالإعلام في عكس الاتجاه المطلوب حضاريا وهو زيادة الوعي، وتعريف الناس بما يدور حولهم. وعرّف البعض الإعلام أنّه الأُسلوب الذي يُحرّك مشاعر التفكير ومكامن الإحساس للإنسان ويهزّ الشعور العاطفي والنفسي بقوة تتناسب مع قوة التأثير وردة الفعل وعظمة الدعوة، ومما لا شكّ فيه أنّ للإعلام دور فعال في صناعة الرأي العام والتأثير على المتلقي، خصوصاً في عالمنا اليوم، حيث يحتل أهمية بالغة الخطورة والتأثير ويعدّ أحد المرتكزات الأساسية في صناعة القرار والتحكم في آراء الناس وكسب عواطفهم، لذا نجد أغلب الدول المتطورة وكذلك المؤسسات والمكاتب الكبيرة قد أولته أهمية كبيرة وخصصت له الميزانيات الضخمة، فأهمية الإعلام في التأثير على الرأي العام هي التي جعلت هذه الدول والمؤسسات تهتم به. وغرض الإعلام بصورة رئيسية إمّا زرع فكرة ما في عقول الناس، أو إزالة فكرة ما من عقولهم، والإعلام كما هو معروف تارة يكون هادفاً وتارة يكون مغرضاً ومرضا، فالهادف منه غالباً ما يصنع رأياً عاماً واعياً يستند إلى الحقائق ويروم الخير للمجتمع ولا يقبل الخضوع للظلم، أمّا الإعلام المغرض فغالباً ما يصنع رأياً عاماً متفككاً ومهزوزاً، ويقدم للمتلقي الأفكار المشوّشة وغير الصحيحة التي ينقلها، فإذا تأثر المجتمع بها، وتطبع عليها، فإنه بلا شك سوف يدخل في غابة الجهل والتخلف، وهذا هو هدف الإعلام المغرض بصورة رئيسية أي صناعة مجتمع متخلف جاهل متزمت ومتوتر، يسهل اختراقه وبث الفرقة بين أهله. ولذلك لابد لنا من القول أن الرسالة الإعلامية الصادقة والموضوعية الواقعية والمهنية، هي المطلوبة في زمننا العربي اليوم الذي يعاني من أزمات متراكمة ومتعددة، والذي مع الأسف نغرق فيه في متاهات يسمونها إعلاماً وهي بعيدة كل البعد عن أي رسالة إعلامية نزيهة موضوعية أو أخلاقية مهما كان نوعها، حيث حضرنا جلسة في العاصمة الإماراتية أبوظبي من ضمن فعاليات «ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الثاني» الذي ينظمه مركز الإمارات للسياسات بالتعاون مع وزارة الخارجية ومجلس الأطلسي في بجلسة تحت عنوان «القوة في العصر الرقمي». وقال توماس رايت، الباحث ومدير «مشروع النظام الدولي والإستراتيجية» في معهد «بروكنغز» بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي أدار الجلسة «اننا جميعا مطالبون اليوم بالبحث في دور القوة بعالمنا المعاصر الذي رسمت الثورة الرقمية ملامحه إلى حد كبير خلال ال 20 عاما الأخيرة، وأن نفكر في ما يجب علينا معرفته مسبقا، ونحن نبحر بسرعة فائقة نحو مستقبل العالم الرقمي». وأضاف «أن العالم بدوله ومنظماته غير الحكومية وأفراده يجب ان يكون مستعدا منذ الآن للتغيرات الهائلة، المتوقع أن يفرضها التقدم الرقمي بتعقيداته على شكل وأسلوب ومستقبل الحياة البشرية كلها». وأشار باري بافل نائب رئيس ومدير «مركز برنت سكوكروفت للأمن الدولي» التابع ل «المجلس الأطلسي» في الولايات المتحدة، إلى «أن تطورات الأوضاع في مناطق الصراع لاسيما في الشرق الأوسط، قد أنتجت شبكات إرهابية ذات بنى مركبة ومعقدة، استطاعت أن تكون من ابرز المستفيدين من الطفرة الرقمية والتواصل الاجتماعي بدون رقيب أو محاسبة، فتنظيم «داعش» مثلا يستخدم الفضاء الالكتروني للتجنيد والتمويل والتسويق ونشر الرسائل ذات المحتوى الدعائي بشكل لافت وسريع الوصول إلى جميع أنحاء العالم عبر هذا الإعلام الجديد المفتوح». وقال بافل «أن المجلس الأطلسي الذي يمثله يرى ان هناك تراجعا واضحا للدول حتى الكبرى منها في المعركة الرقمية، وصعودا لافتا للمؤسسات والمنظمات غير الحكومية في هذا السباق المحموم نحو الهيمنة على أكبر حصة من منافذ الفضاء الرقمي واستخداماته التي تكاد لا تحصى ولا تعد بدون أي رقابة». ورأى أندريه كورتونوف «مدير عام مجلس الشؤون الدولية في روسيا» و «مؤسسة أوراسيا الجديدة» في موسكو «أن مفهوم القوة قد اختلف جذريا خلال السنوات ال 50 الأخيرة، إذ أصبح بإمكان بعض المنظمات الأمنية والميليشيات الارهابية المجرمة ان تعبر الحدود بسرعة وبسلاسة بدون حاجز ورقيب، وأن تخوض حروبا الكترونية ضارية مدمرة وقاتلة من بعيد وتنتصر فيها في عالم الواقع، على قوى تقليدية لطالما عرفت بالصلابة». واعترف كورتونوف «أن من المنظمات والأفراد الذين يقودون الثورة الرقمية في العالم اليوم، وحتى أولئك الذين هم عملاؤها في السوق الرقمية، قد تفوقوا على القطاعات الرقمية التابعة للدول المركزية، لأنهم أرقى علما وأكثر تعليما وخبرة من غيرهم». وفي معرض اجابته حول رؤية الصين وتعاملها مع الثورة الرقمية، قال ليو كانج مدير «برنامج البحوث حول الصين» في جامعة «دوك» الأمريكية و»عضو الأكاديمية الأوروبية»، «ان بكين تواجه تحديا مضاعفا في العصر الرقمي، فالانترنت الصيني لا يزال يفرض رقابة صارمة على حركات تداول الإعلام والمعلومات للأفراد، وهذه معركة ستكون خاسرة في نهاية المطاف بحكم طبيعة الثورة الرقمية ذاتها ورغبة الناس في التواصل بشكل مباشر مع العالم الذي يعيشون فيه». وأضاف كانج «أن الصين تشاطر منذ سنوات الولايات المتحدة وباقي دول الطفرة الرقمية، مخاوفهم من الإرهاب الالكتروني، والقرصنة التي تزداد ذكاء وخطورة وسرعة يظهران عند مهاجمة واختراق الحصون الأمنية والاقتصادية للدول ومؤسساتها ذات الطبيعة الحساسة». وقدمت الين ليبسون، الباحثة والرئيسة الفخرية ل»مركز ستمسون» بالولايات المتحدة، مقاربة مختلفة عن تلك التي ذهب اليها عدد من المشاركين في الجلسة النقاشية، إذ رأت «أن الدول العظمى لا تزال اقوى مما يعتقد الكثيرون في سباق المواجهة الرقمية مع القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية، إلا أن التزامها الديمقراطي بتمكين الأفراد من أدوات العصر الرقمي، قد يعطي انطباعا بأنها قد فقدت جزءا كبيرا من قوتها الرقمية». ولفتت ليبسون النظر إلى «وجوب الاهتمام بالجانب الايجابي لكل المنتجات التي تعتمد أساسا على الثورة الرقمية، فالثورة الرقمية تضع دائما الخيارات امام الجميع. الطائرات بدون طيار مثلا، لطالما وصمت بأنها مجرد آلة للقتل والاغتيال، لكن الاستخدامات المدنية والتجارية التي بدأت تظهر الآن لهذه الطائرات ربما تغير تلك الصورة تماما». وقال جيامبيرو جياكوميلو، الأستاذ المشارك في العلوم السياسية في جامعة «بولونيا» الايطالية، «ان الولايات المتحدة هي القوة الرقمية العظمى في العالم اليوم وهي تستخدم هذه القوة الهائلة في مجالات شتى ولأغراض مختلفة». واتفق جياكوميلو مع الآراء التي ذهبت إلى الاعتراف بقدرة بعض الأفراد والجماعات المتطرفة والمنظمات غير الحكومية، ممن لا يمتلكون مصادر كبيرة مثل تلك التي تملكها الدول» على أحداث أضرار فادحة وخطيرة بخصومهم او ضحاياهم في كثير من الأحيان من خلال التواصل الإعلامي والفضاء المفتوح اليوم الذي اربك العالم.
مشاركة :