لعلها المرة الأولى التي تشهد فيها سوق الأسهم السعودية تطبيقا حيا وواقعيا لنظام الإفلاس الجديد الذي صدر عام 2018، لكن الإفلاس كقضية اقتصادية تعد من أكثر القضايا إهمالا سواء في التعليم حتى في أقسام الاقتصاد نفسها، أو حتى المناقشات التي تدور عن الاقتصاد والأسواق المالية، وكأنه لا وجود له، والسبب قد يعود نوعا ما إلى كثرة استخدام مصطلح التصفية، الذي يمثل آلية تطبيق مفهوم الإفلاس، لكن المشكلة هي إدراك وجود الإفلاس نفسه في الاقتصاد وإدارة الأعمال، لكي أوضح أهمية هذا المفهوم فإنني أمثله بالثقب الأسود الذي يتحدث عنه علم الفيزياء والفلك، فالثقب الأسود غير مشاهد لأنه يجذب حتى الضوء، لكنه قادر في الوقت نفسه على تحطيم نجم ضخم بداخله. وهذه الثقوب السوداء لها دور أساسي في حركة الكون والأفلاك فقوة الجذب الهائلة فيها تعمل كمكينة ضخمة تحرك الكواكب والنجوم كافة، وهكذا هو الإفلاس في الاقتصاد فهو مكينة ضخمة غير مشاهدة لكنها هي التي تعمل على زحزحة الوحدات الاقتصادية وتنافسيتها، ودون هذه الآلة فإن حركة الاقتصاد ستقف تماما. وقد طالبت في مقالات سابقة بعدم دعم المبادرين وترك آليات السوق تعمل بجدارة، حيث إن عليهم المجاهدة وحدهم لتجنب الانهيار في ثقب الإفلاس، وذلك من خلال الإدارة الجيدة للأموال وتنويع الاستثمارات، والدخول بحذر إلى المناطق الجديدة غير المختبرة من قبل والمنافسة بقوة في الفوز بالعملاء، وفي حال تشبع السوق بالداخلين الجدد فإن غير القادرين على تحقيق كفاءة في الإنفاق وفي استخدام الأموال وفي المحافظة على العملاء سيفلسون، ما يتيح مساحة للمؤسسات القوية للبقاء والاستمرار والتوسع ويستمر الوضع حتى تصبح السوق في حالة توازن قبل أن يتمدد مع النمو الاقتصادي والسكاني ليفتح المجال مرة أخرى لداخلين جدد، هكذا يضمن الإفلاس دورة الاقتصاد وعدم توقفها، لكن إذا تم التدخل في أي مسار لتعطيل هذه الآلية فإن الاقتصاد ككل سيتأثر بسوء استخدام الموارد وسوء توزيعها ما يعني تعطل حركته بالكامل وتعرض الاقتصاد الكلي لثقب أسود عالمي الطابع مع إفلاس الدول وتدخل الدائنين الدوليين لتحطيم مكوناتها وحدوث تقلبات سياسية شديدة، فالإفلاس في حدود الاقتصاد الجزئي هو صحي تماما، وقد ضمنت الحكومة آليات الإفلاس النظامية مع صدور النظام. ما يدعوني إلى كتابة هذا المقال ليس شرح الإفلاس وإن اضطررت إلى ذلك، ولكن لأنها المرة الأولى – في حدود علمي – الذي يتم تطبيق مفهوم الإفلاس والتصفية على شركة مدرجة في سوق الأسهم، ولقد اعتقدت يوما ما أن هذا قد لا يحدث أبدا بسبب التمادي في آليات تخفيض رأس المال ومن ثم العودة بطلب زيادة رأس المال وهكذا في دورة لا نهائية، وهذا الأسلوب وإن كان نظاميا إلا أن تشجيعه مضر جدا للاقتصاد، فالمشكلة دوما في آليات تخصيص الأموال، التي دفع بها المستثمرون في سوق الأسهم. فالتماهي الزائد عن الحاجة مع قيام الشركات بتخفيض رأس المال كلما واجهت خسائر فادحة، يعني استمرار وجودها في سوق قد تكون مشبعة فعليا أو في صناعة قد تكون خارج المنافسة كليا، وبقاء أموال المستثمرين سواء كانوا دائنين أو مساهمين حاليين أو محتملين في هذه الشركة هو تعطيل لهذه الأموال عن الدخول في قطاعات وشركات تفيد الاقتصاد وتوفر فرصا جديدة وقوية. وهذا خطير بذاته بل لا بد من التشدد في حالات تخفيض رأس المال وإعادة رفعه بالاكتتابات بحيث يكون هناك مجلس إدارة جديد وخطط إصلاح واقعية وظروف اقتصادية مناسبة وإلا فإن ترك هذه الشركات لثقب الإفلاس هو الأفضل لها وللمجتمع، وإذا كنت قد بينت تلك الأفضلية للاقتصاد، فإن الإفلاس مفيد للمجتمع من حيث تحسين آليات قراءة الاستثمارات والشركات والاقتصاد بشكل عام قبل دفع الأموال وشراء أي سهم، فكما شهدنا قبل عدة أشهر عنما ارتفعت أسعار الأسهم لشركات أعلنت خسائر متراكمة وتآكلا حقيقيا لرأس المال ومع ذلك فإن هذه الشركات تحقق قفزات سعرية لا مبرر لها إلا أن المجتمع لا يشعر بوجود ما يسمى الإفلاس، وأن الدائنين قد يتقدمون بطلب التصفية في أي لحظة بين شراء السهم وبيعه ما يتسبب في خسائر فادحة. هذه الثقة بأن الإفلاس لن يحدث ولن تواجه الشركة مثل هذا التحدي طالما هي قادرة على خفض رأس المال كما فعلت في السابق وكما ستفعله في المستقبل أيضا، لهذا فإن حدوث تصفية لشركة الخضري وهي إحدى الشركات المدرجة في سوق الأسهم، وبطلب من الدائنين ورفض الدائنون إجراءات التنظيم المالي التي اقترحتها الشركة. وهذه لن تكون الحالة الأخيرة طالما أن الإفلاس حقيقة اقتصادية لا مفر منها مهما حاولنا تفاديها، وطالما هناك شركات لا تربح وتتراكم خسائرها عاما بعد آخر، وما زلت أطالب هيئة السوق المالية بإخراج مثل هذه الشركات المعرضة لخطر الإفلاس من السوق وتداولها خارج المنصة.
مشاركة :