يعود أحمد المؤذن بمجموعة شخوصه، شخوصه التي اعتاد القارئ أن يبصر فيها رجل الشارع المطحون والذي تحاصره المصائب، الفقر، البؤس، المذلة، الخطيئة، في مقابل تعتيم للطبقة المخملية التي لا تظهر إلا كعامل ظلم أو سيف على رقاب الضعفاء، أيضا يعود بالطفولة والذكرى التي لا تخلو من حطام وأسى، يصيغها لتأكيد أن الزمن مهما تقدم فإن الشخوص الملعونة بالشقاء تظل باقية. وفي سبر عاجل لأحد عشر نصاً، نتوقف أمام معالجات المؤذن لقضاياه التي يثيرها من خلال نصوصه وشخوصه، نتوقف أمام نص ورطة لذيذة هذا النص يشير إلى الفكرة المسبقة عن الأجانب في البلد، والمثير أن القاص يقسّم الأجانب من خلال فكرته المسبقة، مثلا الشقراء الأوربية لا يمكن إلا أن تكون صاحبة عمل مرموق، في مقابل الأجانب الآسيويين الذين لا يمكن تخيلهم إلا خدما، لا يغادرن البلاد دون أحلامهم المحروقة كأعمارهم، بينما يغادر الأوربي بثروات البلد، وسنأتي علة ذكر هذه المفردة -الأجنبي- في نصوص المؤذن لاحقاً. أما نص عنوان الغلاف الركض في شهوة النار هو تكرار لقضية تسرع الأنثى بتسليم جسدها في مقابل تملص الرجل من الوعود، يعيب هذا النص تحديدا ايغاله في الوعظية وقفزاته التي تجنح للامنطقية في مفارقاته، لكنه ينجح في فتح النص في الخاتمة، ليخفف من السيطرة المباشرة عليه كراوٍ. في نص حلم أحمق يعود للفقر، للشباب الذين يبحثون في حاويات القمامة عن لقمة العيش وشراء حذاء جديد، لكن حتى هذه المهنة لم تعد تخلو من المآزق. ينتقل بنا المؤذن في نص امتحان إلى بلد آخر ليحط في كربلاء وقريباً من الفقر إلا أن الورطة تكون مضاعفة حين يرى رغبة أهل الدار بتزويجه ابنتهم بدلا من طلب المال، لكنه يختار الإخلاص لزوجته والإفلات من هذه المحنة التي يعتبرها اختبارا لمدى إخلاصه لزوجته. لا أجد مخرجاً يطرح المؤذن قضية الزواج من أجنبيات وحرمانهن من العودة أو زيارة أهلهن بالخارج واخفاء الزوج لأوراقهن الثبوتية التي تجعل من المغادرة شبه مستحيلة، وتستمر الخيبات في شخوص المؤذن، إذ حين تسنى للمرأة العثور على جواز سفرها أفشل خطتها الحمل وعادت أدراجها لقبضة الزوج. في نص يا صاحب تنكة المبيد يعود المؤذن للطفولة ويستذكر صاحب التنكة الذي يعمل في رش المبيدات ويشير لخطورة المواد وقلة الاحتياطات في ذلك الوقت. تماما كما يستحضر في نص مصباح فروشا البائعة الجائلة ذات الصرة العجيبة التي تحوي كل شيء، ورغم اشتراك هذا النص في استرجاع الزمن إلا أنه يركز على قضايا اجتماعية كأنانية الزوج الذي يبخل على أولاده بينما يغدق على زوجته الثانية وأطفاله منها، يشير النص لشراء الزوجة الأولى لقميص تمني نفسها بأن تستحوذ على قلب زوجها بدلا من شراء شيء لصغيرها، دائرة من البؤس الذي لا ينتهي والرغبات التي لا تنصف أحداً. أيضا نص النار التي يعود لاستذكار فترة الطفولة وكيف تم احراق المخبول بسبب التزامه بوعده لخديجة بأن يقطف من بستان المختار رمانة، لكنه وقع في قبضتهم وأحرقوه حياً، ليحترق بعدها عقل خديجة. وأخيرا نص شربت ورطة الكأس ويرجعنا المؤذن للزمن البعيد حيث الأبقار في المنازل ويؤدي خدمة توصيل البرسيم ليشرب الحليب مكافأة لمساعدته لكنه يتعرض لفايروس يقعده في المشفى. في نص متى يغادر وجعي ينتقل المؤذن للمسافة التي تتلاشى بين الطبيبة والمريض، ويستعرض سلبيات توظيف الأطباء دون خبرة، وتعاطي بعضهم مع المرضى بكل برود، فأنت ترى الطبيبة تتصفح هاتفها وتجول في الوتس آب في مقابل أنات المرضى بالخارج. شبح في هذا النص يظهر القارئ للمؤلف ويؤكد على فكرة أن المؤلف قادر على تغيير خط سير شخوصه وتحويل خرابهم إلى جنات لا تنتهي محاصيلها، في هذا النص التقاطة رائعة ومثيرة للكثير من الأسئلة التي سنطرحها عن دور المثقف داخل نصوص المؤذن. من كتب نصوص المؤذن، الراوي المثقف، أم المثقف الكاتب؟ أتفقد الرسائل النصية القديمة، أحولها لمكب النفايات الافتراضي، رسائل تتعدد من هنا وهناك، بعضها أو أكثرها دعوات لبرامج أمسيات ثقافية، اخترت عدم حضورها لكثرة السهل المكرر في خطابنا الثقافي العام. نص ورطة لذيذة ص7ــ كم هو سهل تدبيج صفحات التنظير وخلق ألوان متسامحة على صفحة الواقع المتخيل في عقولنا كمثقفين.. نص امتحان صـ31ـ صرت مكبلة تحت تأثير شهوة الكتابة.. نص لا أجد محرجاً صـ42ـ .. فأنت قاص وروائي هيا أكتب قصتي وبهرجها بخيالك. نص مصباح فروشا ص62ــ يا أخي ناصر سأصحح ما بدر مني، أنت واضح أنك مثقف وأقسم لك. نص شبح صـ70ـ وللإجابة على السؤال ومن خلال الشواهد والعبارات الظاهرة دون تأويل بالإضافة للعبارات الضمنية التي تحيلك للمثقف الكاتب تجد أن المؤذن تورط بذاته داخل النصوص، لم يستطع في كثير من شخوصه أن يهرب من نفسه كونه مثقفا وكاتباً، أيضا ربما لأنه يتقمص في كل شخوصه دور البطل والسارد ما عدا نص النار التي تحول لراوي عليم، وفي ذلك أيضا إشارة لرغبة الكاتب بأن يتخفى ويتلبس شخوص حكاياه، وهذا ليس سيئا إلا عندما يكونها بذاته الكاتبة والمثقفة، على الراوي أن يكون مثقفاً وعليه أن ينسى ذلك خلال كتابة النص، أن يكون راويا لا كاتباً. أيضا ثمّة سؤال يلح من خلال تناول المؤذن لمفردة الأجنبي في الكثير من نصوصه وأثرها على المتلقي وعلى الكاتب نفسه إذا ما اقتنعنا بأن الكتابة عملية فضح لمحتوى الفكر ولنستعرض بعض الفقرات من نصوص مختلفة: تمسك السماعة غير آبهة بصاحب القهوة الأجنبي، يلتقم بعينيه الوقحتين جسدها الرقيق الركض في شهوة النار ص13ــ وبصري مشتت بين وجه المضيفة الأجنبية تتعلك باسترخاء مثير للأعصاب ومستفز.. لا أجد مخرجا صـ40ــ فعرفت أن المبيد الكريه الرائحة، يأتي من بلاد بعيدة، قومها ذوو بشرة حمراء خمرية يا صاحب التنكة ص46ـــ أنت تعرف ولم تخبرني؟ واحد أجنبي في عمر والدنا يرحمه الله ص49ــ أخذتني من أفكاري هذه العجوز الأجنبية،... مصباح فروشا ص60ــ يظهر الأجنبي أحيانا ليوحي بتعدد الوظائف التي يشغلها، مضيف، نادل مقهى، خدم منازل،... وأحيانا يظهر الأجنبي كبلد كما في نص صاحب التنكة الذي يرمز لهم بالبلاد البعيدة وذوو البشرة الحمراء. وثمة أخرى يظهر الأجنبي في إشارة لعرقه المختلف كما في نص مصباح فروشا. ويتذبذب بحسب السياق بين الحنق على الأجنبي كما في نص الركض في شهوة النار والنادل الذي يبحلق في جسد الفتاة. وبين التعاطف مع الأجنبيات، الزوجة الأجنبية، الخدم الذين يغادرون بأحلام محروقة كما في نص ورطة لذيذة. أجد أن الأمر في غاية الحساسية إذا ما ظهر الأمر - دون وعي- خاصة أننا ننظر لمجموعة قصص وليس قصة واحد، مما يبرز التأثر أو التحامل أو الأفكار الداخلية تجاه قضية ما، من حق كل كاتب أن يمرر ما يؤمن به لكن أيضا عليه أن يكون حذرا في تمريرها لأنها أحيانا تلتبس، فيسيء البعض فهمها وتأويلها. يبرهن أحمد المؤذن من خلال هذه المجموعة على تمكنه من أن يكون راوياً بغض النظر عن كون هذا الراوي شعبياً أم مثقفا، ساردا بذاته أو من خلال شخوصه، ثمّة اشتغال واضح على اللغة والقفز بالعبارات بتكنيك مختلف ورشيق.
مشاركة :