المثقف وشهوة التصنيف

  • 2/6/2019
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

مرت على المجتمع فترة ترسخ -خلالها- في ذاكرته الجمعية أن لغة التصنيف لا تأتي إلا من التيار المتديِّن تجاه خصومهم المثقفِين -على مختلف مسمياتهم- الذين تجمعهم رابطة (الثقافة)، وترسخ في ذاكرته أيضًا أن المثقفِين لا تتضمن قواميسُهم مصطلحاتٍ تصنيفيةً بحق خصومهم، فضلاً عن مُقاسِمِيهم الهمَّ الثقافي. ومع صكوك البراءة من التصنيف التي حظي بها المثقفون إلا أن بعض المحكات كشفت زيف تلك الصكوك؛ فمن حين لآخر تظهر عينات من المثقفِين تُمارس التصنيف بحق الآخر المختلف -وربما يغدو هذا مقبولاً مع عدم وجاهته- لكن أن يكون التصنيف بحق مُقاسمِيهم الهم نفسه فتلك مسألة تستعصي -بلغة المثقفِين- على المنطق. بالأمس كانت للشاعر الناقد الدكتور عبدالرحمن المحسني مداخلة في ملتقى قراءة النص الخامس عشر الذي نظمه مؤخرًا أدبيُّ جدة، وكانت حولَ جدل قصيدة النثر وقلق تجنيسها، ونصت على أننا «إذا أردنا فعلاً أن نَخرج من قلق التجنيس يجب أن نقتل قصيدة النثر؛ لأنها الوحيدة أو هي الأولى التي شقت عصا التجنيس». مضيفًا «نلعن قصيدة النثر في المساء ثم نأتي في جلساتنا النقدية فنتناول هذه القصيدة.. وهذا يعني إيمانًا مبطنًا منا بأنها قصيدة تستحق أن يُنظر فيها وأن تُدرس». ويبدو أن مداخلة المحسني كانت محكًّا جيدًا لجسِّ شهوة التصنيف المتوارية خلف مثاليات بعض المثقفِين، وهو ما حدا بالأستاذ علي فايع المحرر بـ»عكاظ» لأخذ آراء ثلاثة من الشعراء البارزين على المشهد الثقافي حول المداخلة. الأمر المؤسف في مشاركات الشعراء هو كمُّ المصطلحات التصنيفية بحق المداخَلة وصاحبها، فأحدهم تساءل عما أسماه «العنف في حقل الأدب، وأنه يخشى أن يأتي من يقترح قتل الشعراء!»، والثاني أحال المُداخِل مباشرة «لعصر الصحوة التحريضي»، والأخير ذهب ليسترجع شريط التشدد ويطرح في مداخلته مصطلحات تصنيفية على شاكلة (التطرف والإقصاء والتشدد والعدوانية)، على طريقة إياك أعني واسمعي يا جارة. ولو أن المشاركِين كانوا من خارج المشهد الثقافي فربما نجد لهم عذرًا؛ كونهم لا يتماسون معه، ولا يعلمون الكثير عن رموزه، لكن أن يكونوا من عمق المشهد الثقافي فهنا تُطرح بعض الأسئلة على شاكلة: ألم يتعرفوا من قبل على المحسني وهو الشاعر الناقد (المجايل لهم)، صاحب الدواوين الشعرية والمؤلفات النقدية، والمشاركات الصحفية، واللقاءات الحوارية؟! ألم يتعرفوا من قبل على موقفه من قصيدة النثر وهو الذي دافع عنها -ولا يزال- عبر وسائل مختلفة، وله ديوان وقصائد على قصيدة النثر؟! ألم يكلفوا أنفسهم الرجوع للمداخلة وفهمها في سياقها؟! هل يمكننا القول إنهم وقعوا في فخ السؤال؟! ألا يعلمون موقفه المضاد للأناشيد الإسلامية (التجييشية) حتى لا يقحموه في الصحوة؟! بعد قراءتي للتقرير غردت مباشرة بأن في الأمر لَبْسًا، وقلت إن مداخلة المحسني أظنها من باب (السخرية) خصوصًا وهو يدعو «لرفع الحظر والوصاية عن قصيدة النثر»، وتعجبت «من هجوم المداخلِين، وكأنهم لم يقرؤوا للمحسني ولم يتعرفوا على موقفه مسبقًا.. وهم مَن هُم قامات شعرية!!»، فرد المحسني مؤكدًا صوابية رأيي بقوله: «بالضبط هذا ما قلتُه، طرحتُ تحليلاً ورأيًا فاتُخذ موقفا: رأيي المجرد أننا لن نستطيع أن نَخرج من قلق التجنيس إلا بقتل قصيدة النثر -وعقلاً لا يُعقل- وما دمنا نلعنها ليلاً وندرسها صباحًا فهذا اعتراف مبطَّن لها. بالمناسبة ديواني إنفلونزا المدينة على قصيدة النثر.. وعجبي». وعليه، وفي ضوء جدلية مداخلة المحسني، يمكن القول إن (شهوة التصنيف) لاتزال ملازمة للمثقفِين على قدم المساواة مع مماثليهم في الطرف الآخر، ومع هذا فهم جديرون -بوصفهم مثقفِين- بالتحرر منها كتحررهم من أوزان القصيدة التناظرية وقوافيها.

مشاركة :