تؤكد الأديبة والكاتبة ليلى البلوشي على حاجتنا إلى قارئ مكتشف، فهو القادر على رفع الركود الذي تعاني منه القراءات في عالمنا العربي، سيما في غياب نقاد حقيقيين مكتشفين، وتقول في مثل هذا الوضع الثقافي المتردي ، لا يبقى للكتاب والكاتب سوى القارئ المكتشف الذي يقرأ بوعي ويقتنص الكتاب الجيد بذكاء، ليلى البلوشي كاتبة عمانية مقيمة بدولة الامارات صدر لها " هواجس غرفة العالم " و " قلبها التاسع " وأخيرا " رسائل حب مفترضة بين هنري ميللر وانا ييس نن " في البدء سألناها: * ما الكتاب الذي أحدث تأثيرا فيك بعد قراءته ؟ - أعظم تعريف قرأته عن " القارئ " في حياتي هي العبارة التي قالها الكاتب الأورغواني " كارلوس ليسكانو " صاحب كتاب " الكاتب والآخر " ترجمة " نهى أبو عرقوب " : " أول ما يعزز الابتكار هو القارئ ، إنه يبتكر كاتبه الخاص انطلاقا من الكتاب الذي يقرأ " هناك كتب كثيرة للغاية وقفت عندها طويلاً، قراءة و تأملا، في العادة دائما أكتب عن الكتب التي تثير القارئة في داخلي وأنقل خبراتها إلى الآخرين عن طريق تناولها في مقالات تعنى بالقراءة ، ومن هذه الكتب البديعة هو كتاب "ليسكانو " الذي اقتبست منه العبارة أعلاه في كتابه " الكاتب والآخر " وأتذكر جيدا أن درجة إعجابي بأفكار الكتاب ولغته السلسة في نقل خبرته، تخيلته جالسا معي في مقهى أو مكتبة أو على شاطئ جميل، نتحاور معا حول آرائه في الكتاب، وبالفعل نقلت آراءه المكتوبة في حوار افتراضي تخيلته جرى بيننا ، فكنت أطرح الأسئلة وأنقل اجاباته من كتابه وعنونت الحوار الافتراضي "حوار افتراضي مع كارلوس ليسكانو" وقد نشرته في مدونتي " أتنفس بهدوء " ، من ضمن الحوار الافتراضي الطويل كنت قد سألته : - ماذا عن دور الكاتب نفسه مع كتابه ، مع النص أو الحكاية التي يكتبها..؟ فكان جوابه كما نقلته من كتابه : " الكاتب دوما اثنان : ذلك الذي يشتري الخبز والبرتقال و يجري الاتصال الهاتفي ويذهب إلى عمله ويدفع فاتورة الماء والكهرباء ويحيي الجيران والآخر الذي يكرس نفسه للكتابة، الأول يسهر على حياة المبتكر العبثية والانعزالية، إنها خدمة يؤديها بكل سرور ظاهري فقط؛ لأن التوق إلى الاندماج يظل موجودا فأن تكون اثنين ليس أسهل من أن تكون واحدا " .. * إذاً ما نوع التأثير وهل أنتِ مقتنعة به ؟ - " يجب أن تكون الكتب ثقيلة ؛ لأنها تخفي كل العالم " هذا ما ذهبت إليه الروائية الألمانية " كورنيليا فونكه " صاحبة الرواية الشهيرة والتي حولت إلى فيلم فنتازيا ساحر " قلب الحبر " لعل روايتها رسمت بعمق إلى أي مدى يمكن أن يبلغ تأثير الكتب في حياة القارئ، الكتاب الذي يحوي شخصيات فنتازية تخرج من الكتاب إلى واقع حياة القارئ ؛ لأن صوته المؤثر جلب الشخصيات أثناء قراءته للكتاب إلى واقع حياته، هو بالطبع لم يكن قارئا عاديا البتة، بل كان قارئا شغوفا بالحكايات ، كان يقرأ لزوجته أثناء حملها لابنتها، حتى خرجت إلى النور، وظل يقرأ لها كل ليلة، لقد اعتادت الطفلة على صوت والدها الشغوف بالحكايات ، ولا اعتقد أن فكرة الرواية بها نوع من المبالغة، فهناك كتب لها تأثيرات شتى على حياتنا، كتب تجيد عملية نحت أعماقنا، كتب تبدلنا أيضا من الخارج وتجعلنا أكثر إنسانية في هذا العالم الغارق في ركام الحروب، القراءة فعل خشوع، فحين تنهي قراءة كتاب لا تعود الشخص الذي كنته كما قال " امبرتو أكابال ". * ما مدى استمرار تأثيره ؟ - التأثير ليس في استمراره بل حين يوقد ضوءا في عتمة أرواحنا، كما فعلت " ليزل " بطلة رواية " سارقة الكتب " للروائي " ماركوس زوساك " يتيمة الحرب التي قهرت ضربات المدافع بالحكايات التي كانت تقرأها بصوت غاية في الدفء ، لتُسِّرب الاطمئنان في القلوب المحبطة التي كانت معهم في قبو، متكدسين كأرواح هزيلة هربا من أصوات القنابل والصواريخ المرعبة. * هل ترين أن القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر ؟ - بدأت أوقن منذ مدة طويلة أن " القارئ " ولا أعني هنا بالقارئ العادي بل "القارئ المكتشف" هو من سيرفع الركود الذي تعاني منه معظم القراءات في عالمنا العربي ، لاسيما حين ولى النقاد الحقيقيون المكتشفون منذ زمن " رجاء النقاش " و" إحسان عباس" وغيرهما، ومذ وجدت الكتب نفسها في عالم أكثر نقاده أصبحوا تابعين لرافعات إعلامية، تلك التي تلمّع الكتب التي تصاحبها إعلانات قوية، أو تلك التي أصبحت تتمتع ببريق الجوائز، هنا في مثل هذا الوضع الثقافي المتردي، لا يبقى للكتاب والكاتب سوى القارئ المكتشف، الذي يقرأ بوعي، ويقتنص بذكاء الكتاب الجيد من على رفوف الكتب المزدحمة، بل حتى الكتاب السيئ له نصيب من المتابعة والاهتمام عند القارئ المكتشف، لتجريب ذائقته الشخصية ، وميوله الفكرية في انتقاء ما يراه بوعيه، وبكامل حريته القرائية، بعيدا عن ما يفرضه الذوق الدعائي العام على شريحة واسعة من قراء يفتقدون للوعي القرائي، ويرضخون لوميض كيفما كان باهرا أو باهتا دون الأخذ في الاعتبار لأي معايير منطقية ؛ لفقدانهم ميزة تذوّق الكتب دون وساطات براقة لم يفاخر " بورخيس " يوما بأنه كاتب عظيم رغم عظمته بل كان يفاخر بأنه قارئ محترف، لذا العالم الثقافي الغربي يدرك أهمية " القارئ " على الإنسانية، لما له من أبعاد ثقافية لتنشئة مجتمع حضاري متعدد ومخلص أبدا للجمال ، مجتمع حرّ ومستقل ؛ لأن أفراده قرّاء ويُعنون بالكتاب أهمية بالغة لصناعة حضارتهم، ووحده المجتمع المتحضر هم من يولون أهمية كبيرة لموضوع تطوير طرق القراءة ولتحويل الفرد العادي إلى قارئ جيد ، لاسيما عند شريحة من تلامذة المدارس – جيل المستقبل - وقد تطرّق الكاتب الأمريكي " تيم باركس " لطرح موضوع القراءة في معظم كتاباته ، وفي إحدى مقالاته المهمة التي عنونها ب" سلاح القراء " يتساءل فيها عن الوسيلة الأكثر عقلانية التي يمكنه أن يتبعها ليقود طلابه ليقظة أعظم في حال القراءة ، فبدأ يفكر بالطريقة التي يتبعها أثناء القراءة لتظهر فعاليتها العميقة ، لقد أعدّ القراءة سلاحا فعّالاً ومهماً لنهضة العقول والأمم.
مشاركة :