بقلم: عاطف الصبيحي كلما قرأ المرء في الكتاب الكريم قراءة عمودية وحفر في المعاني اقترن بهذا الكتاب اقترانا فكريا يقوده إلى اقتران روحي، لا يعرف حلاوته إلا الحفّارون في أرض المعاني والدلالات، فالهداية وطلبها ممثلة بالصراط المستقيم في الآية السابقة هي وسيلة لغاية أسمى ومآل ليس بعده مُراد يسعى إليه الإنسان، وهذا ما جاء على لسان أصحاب الجنة «الحمد لله الذي هدانا لهذا» 43 الأعراف، وهل بعد الجنة مسعى للإنسان يرنو إليه، ففعل الهداية الذي يعني الإرشاد والدلالة والتبيين والإلهام، مثلها الصراط المستقيم، الوسيلة الأسلم والأقوم للغاية الأسمى. وعليه فإن الفعل «هدى» قي الكتاب مُتعد بنفسه «إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً» 3 الإنسان، وقد يأتي مُتعديا بـ«إلى» كقوله تعالى «وإنك لتهدي إلى صراط المستقيم»52 الشورى، وأحياناً يتعدى بـ«اللام» كقوله تعالى «الحمد لله الذي هدانا لهذا» 43 الأعراف، وما هذا السرد للحالات إلا لتبيان العلة من ذلك والتي تتلخص بأنّ التعدية بالحرف تأتي لمن لم يكن في الصراط «فاحكم بيننا بالحق ولا تُشطط واهدنا إلى سواء السبيل» وحضور فعل الهداية بنفسه يكون لمن في الصراط ولمن خارج الصراط، ولأن الهداية على مراتب: منهم البعيد عن الصراط، هنا تأتي الهداية مُعداة بالحرف «إلى»، ومنهم من يسير في الطريق ويحتاج إلى تبصره وتبصير أكثر وخاصة حين يضل في دهاليز الطريق. ولأن «اللام» غائية أي تعليل الغاية من الحدث فإنها جاءت كما ذكرنا آنفاً في الأعراف مع الغايات النهائية ومن المُلاحظ أنها لم تقترن بالصراط كوسيلة، «قل الله يهدي للحق» 35 يونس، «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» 9 الإسراء، «يهدي الله لنوره من يشاء» 35 النور، ومن الملاحظة أن هذه الغايات أسندها الله إلى نفسه العلية وإلى كتابه الكريم فقط. العلاقة بين الآية «اهدنا الصراط المستقيم» في الفاتحة وبين الآية «والذين اهتدوا زادهم هدى» 17 محمد، تكاملية لضرورة الاستمرار في الطريق لبلوغ الغاية القصوى، حيث إن العبد مفتقر في كل ساعة وكل حالة إلى الله في البدء وأثناء السير، وهذا ما لا غِنى لأحد عنه من السالكين في درب المآل المنشود من كل ذي لُب. هذا الطلب للهداية لا ينفصل بالمعنى عن بدايات السورة الكريمة «رب العالمين» لأن من أهم معاني الرب «المُربي» والمربي أهم مهامه الهداية، ولها ارتباط كذلك بـ«الرحمن الرحيم» فالذي يهديه الله للصراط بالضرورة قد رحمه بتلك الهداية، ومرتبطة بـ«إياك نعبد» حيث إن الهداية الربانية تقود إلى العبودية الصحيحة، وكذلك لا تصح العبادة الصحيحة إلا بالاستعانة به جلّ شأنه على الهداية والتثبيت. من بدائع وعجائب الكتاب الكريم اختيار كلمة الصراط تحديداً من دون الطريق أو السبيل، حيث إن الصراط يدل على الاشتمال والسعة ولا يضيق بأحد، مهما كثُر السالكون في هذا الصراط، بينما تخلو مفردة السبيل والطريق من معنى الاشتمال والرحابة. وجاء الصراط مفرداً ومعرفا بتعريفين وموصوف بالاستقامة، للدلالة على أنه صراط واحد، وكونه مستقيما للدلالة على أنه أقصر الطرق للوصول إلى الغاية القصوى، بخلاف الطريق المُعوج.
مشاركة :