قبل سنوات قليلة كنا نقطع كل كورنيش الدمام، وكان كورنيشا حقيقياً يدور حوله ساحلُ الخليج بمياهه الزرقاء، فتصفو النفس، وتحلو النزهة. ولكن دعوني لو تفضلتم علي أروي هذه القصة التي حدثت حقا، رغم غرائبيتها. الكونت «يوروسوف» نبيل روسي أيام القياصرة. كانت تدور في عائلته خرافة تشاؤمية تقول إن ضاعت دبلة الخطيبة أو الزوجة فهي لم تعد لزوجها ولا لخطيبها ومن النحس إكمال الخطبة أو الزواج، خرافة جعلت الكونت يقود العائلة لإفلاسٍ حقيقي، ثم من بعد وفاته إلى ربحٍ هائلٍ حقيقي. بينما كان يتنزه الكونت الشاب في البحر الأسود مع عروسه الجميلة الصغيرة في شهر عسلهما، وقع النحس المشؤوم الذي يُعتَقدُ ويؤمَن به في عائلته، انزلقت الدبلة من إصبع الزوجة وبلعها البحرُ وجرفها الموج. وكاد الأمير الروسي الشاب يفقد عقله، فحسب الخرافة العائلية هذا يعني أنه فقد زوجته، حبًّ حياته التي لا يمكنه أن يتنفس الحياة بعدها، فما كان منه إلا أن يقوم بعمل لا مفرّ من عمله.. اشترى كل ساحلَي البحر الأسود. اشتراهما من مئات المالكين بـ 40 مليون دولار «وكان مبلغاً فلكياً آنذاك» بعمليةٍ مرهقةٍ طويلة حتى اكتمل له الشراءُ فصار يملك كل ساحلي البحر الأسود وكل مائه، وبما أن الدبلة في ماء البحر الأسود من أملاكه، إذن الدبلة لم يفقدها فهي ملكه.. واستمر سعيدا مع زوجته المحبوبة التي ضحى بمال أسرته من أجل عينيها الزرقاوين. بعد وفاة الكونت، قام الورثة، وهم لا يحتاجون إلى الدبلة بالطبع، ببيع الأملاك مضاعفةً بقيمة ثمانين مليون دولار. انتهت قصة الكونت الروسي الحقيقية. نعود لكورنيش الدمام. هيا نقوم نتنزه، ولكن لا بحر في كورنيش الدمام، فقد تم دفن البحر. ودفن البحر عملية لا تثير الإحباطَ فقط بل الدهشة أن تكون مساحاتُ اليابسة مئات الآلاف من الكيلومترات البور والتي تحتاج إلى إعمار، ثم، ماذا؟ ندفن البحر! وبالذات دفنُ هذا الخليج الضيق الذي يحمل تاريخا أثيلا، ووضعه الله يشق اليابسة ضيقا ضحلاً مخنوقا عاشت على ضفافه حضارات متعاقبة وبفضل الله اقتاتت شعوبها وتاجرت وأبحرت للرزق في زمن فقر مدقع وبيئة فقيرة. إن دفن البحر عملية تصل إلى حد الذبح الإيكولوجي ودورات الحياة للكائنات البحرية الصغيرة التي تعيش في غابات أشجار القرم «المانجروف» منذ خلق الله هذا البحر بلا إرباك بل هي دورة الحياة الحرة الطبيعية تماما كما أرادها الله. فوق ذلك ليس فقط البحر السمك، بل هو مرفق استراتيجي للتنقل والتجارة ومهم للسلاح البحري، وأيضا لمرافق النفط المغمورة بالمياه إن أردنا أن نتكلم ماديا، وهنا فنحن نضيق استخدامات البحر فقط لأن أحدا أراد نفخ جيبه.. وليأتِ بعد ذلك الطوفان! ستسأل الأجيال القادمة وستتهم، وقتها لن يكون المسبِّبون موجودين فليبلطوا إن أرادوا البحرَ. أوه.. لا بحر يبلطونه. الكونت «يوروسوف» لم يدفن البحر ولكنه ملكه من أجل دبلة، وحرم الناس من سواحله فقط لأنه يملك المال والتعلق الشديد بزوجته، وله الحق في ذاك التعلق، وليس له الحق في منع الناس من البحر. ولما باع ورثة الكونت سواحل البحر، كان البحرُ موجوداً.. وهنا الفرق!
مشاركة :