د. عبدالله الغذامي يكتب: موت اللغة

  • 12/11/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

‏في الثاني من نوفمبر 2021 في قمة غلاسكو للمناخ ضجت وسائل الإعلام العالمية بصور تظهر جو بايدن غافياً في نومة ناعسة وسط المؤتمرين، وذكرت الأخبار عن حال الرتابة في خطب المتحدثين، وما تحدثه من مللٍ تسبب بمثل هذا النعاس، ورغم شهرة بايدن بالنعسان إلا أن المهم هنا هو إجماع وسائل الإعلام على فكرة الملل والرتابة في خطب الساسة، والتي ليس فيها سوى تكرار ما قيل وظل يقال عن أحوال المناخ، وهو قول يتردد ولا جديد فيه، وما هو أخطر من ذلك فليس هناك قرارات تحسم المشكلة وأبرز ما في الأمر هو نفاق الدول الكبرى التي هي السبب في إنتاج الفساد المناخي، وفي المقابل فهي تدفع بالمشكل عبر اتهام غيرها بأنهم السبب، والكل ينفي التهمة عن نفسه في حين يتهم غيره، والحلول موجودة فقط على الورق، وفي خطب الساسة التي تحوّلت لنوع من البلادة ودخلت في حال اللا معنى، وهنا تشهد اللغة نفسها حالاً من الفساد البيئي اللغوي حين تصبح الكلمات مرصعةً بالبلاغات ورنين الألفاظ، فتظل في حدود الخطابة وحفلات المناسبات وحفلات التصاريح والمساومات السياسية والاقتصادية والابتزازات بين الأطراف المتناحرة، والضحية دوماً هي البيئة من جهة واللغة من جهة ثانية، والكل يخطب ولست أرى أفضل من نعاس جو بايدن الذي هو اعتراف باللا جدوى بمثل ما هو اعتراف عالمي بلا جدوى الكلام مشهراً بذلك أن العالم قد فقد لغته وفقد ضميره وذمته، ففي حين يصرخون بالخطر، فهم يصرخون في الوقت ذاته بالنفاق، إذ يمضي كل واحد منهم ليعزز فرص اقتصادات بلده على حساب إتلاف البيئة وينتظر فقط فرصة أخرى لمؤتمر آخر ليخطب ساعةً، ثم يسند رأسه لنعاس ينسخ كل ما قاله في الجلسة ويرد بنعاسه على كل ما سيرد في الجلسات من خطب أصبحت بلهاء في آذان سامعيها لأنها لم تعد تعني غير الرنين البلاغي، ويتم ذلك في مشهد عالمي يشهد بموت اللغة وموت الضمير. إن المبالغة الخطابية تستنفد الواقعية، وقصة كولومبوس تكشف ذلك، حيث ظل يراسل ملك وملكة إسبانيا عن عظمة مكتشفاته في القارة الجديدة التي أصبح اسمها أميركا حتى وصل لموقع، فكتب أن هذا الموقع أجمل من كل ما وصفت لكم من قبل، ولم يلبث أن وصل لموقع أجمل من الأجمل ومن كل ما كتب عنه ووصفه من قبل، فكتب يقول سيدي الملك: لقد نفدت لغتي، ولم يبق عندي من الكلمات ما يمكنني من وصف ما أرى، ولم تصل كلماته لهذه الخاتمة إلا لأنه قد بالغ في وصف ما مرّ عليه وزاد في المبالغة حتى بلغ حد العجز اللغوي، وهذا نفسه هو ما شهده العالم في مؤتمر غلاسكو، حيث وقفت اللغة على حد العجز التعبيري، وكلمات الأرض كلها قد استنفدت في وعود جبارة بكلمات جبّارة مع كذب جبار، وهذا قمة منجز الحضارة التي جعلت المادية الاقتصادية فوق مصائر البشر والبيئة. لا غرو إذن أن يقول ريتشارد رورتي إن الشعر وحده هو المخلص للعالم من تهورات السياسة، وإن تآمر الساسة على اللغة ومسخوا معانيها، فالشعر هو الذي يمد اللغة بالحيوية والسيولة والتمدد. والمجاز الشعري وحده السلاح ضد الكذب السياسي.

مشاركة :