التعقيـد.. مخرجٌ لأزمات الإنسان المعاصـر

  • 12/11/2021
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

هنالك رؤية معرفية سائدة في الثقافة الإنسانية اليوم تتلخص في الحضور المكثف للتخصص المعرفي المنفصل على المستوى المعرفي يوازيه حضور مكثف للذات والنحن على المستوى الأخلاقي. هذا التمركز المعرفي/الأخلاقي الذي أدى لنسيان ما هو متجاوز للذات سواء بكونها ذات مفكرة أو متعاطفة كان ولا يزال في صميم اهتمامات الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي ادغار موران. يعتبر ادغار موران هذا الانغلاق والتمركز حول الذات معضلة أساسية هي في مركز الأزمات التي تواجه البشرية اليوم. فهذا الانغلاق الذي يشكل عالمنا المعاصر كما يعتقد موران جعل الإنسان لا ينظر إلا إلى "أناه" الذاتية ولا يكاد يرى العالم والأخرين بوضوح من حوله. لذلك يضع موران هذه المعضلة في مركز اهتماماته وانشغالاته الفكرية جاعلا منها مشروعه الفلسفي الرئيس. المعضلة كما يراها ادغار موران هي أن المعرفة الإنسانية اليوم متجزئة ومنفصلة وتفتقر للترابط والاتصال حيث إن البناء المعرفي السائد هو المتعلق بالتخصص الأكاديمي المنغلق وغير المتصل بالمعارف والحقول المعرفية الأخرى، هذا الانفصال يتعدى كذلك إلى طبيعة التواصل الأخلاقي مع الآخر حيث تكون الذات هي الأخرى متخصصة في نفسها، بمعنى أنها منشغلة ومنغلقة على نفسها دون غيرها. هذا الانفصال أو الانغلاق إن شئت يراه موران غريب وغير متسق مع الواقع وهنا تكمن المشكلة، فالعالم الذي نعيشه اليوم متصل ومترابط بدرجة عالية وغير مسبوقة بخلاف البناء المعرفي والأخلاقي الذي تطبعت عليه البشرية اليوم. الإصلاح الفكري الذي يقدمه ادغار موران في مشروعه الفكري هو إعادة هذا الاتصال والتناغم في المعرفة والثقافة الإنسانية، ولكن من دون الوقوع في فخ الاختزال والسطحية. لكن كيف يمكن تجاوز هذا التعارض التقليدي بين المعرفة الكلية الشاملة وبين العمق والدقة التي توفره المعرفة المتخصصة أو النسق المعرفي المغلق، بين الهوية الصلبة وحضور الأنا وبين الانفتاح والتعايش مع الاخر؟ يقدم موران مفهوم "التعقيد complex " كحل ومخرج للإنسانية من هذه المعضلة التي أصبحت غارقة فيها بد كبيرة. التعقيد هنا عند موران هو مرادف للتنوع والثراء المعرفي الذي ينظر للإنسان والعالم من أبعاده المختلفة. يبني موران المفهوم الذي ينطلق منه على مقدمة هي أن الكل لا يساوي مجموع أجزائه بل هو دائما أكبر بل وربما أقل أحيانا من مجموع أجزاء، حيث إن الكل من شأنه أن يتجاوز مجموعة أجزائه ليشكل شيئا مختلفة كما يحدث عندما تجتمع عناصر كيميائية مكونة كلاً فريدا ومختلفاً. يرى موران أنه هذه هي المهمة الأساسية المنوطة بالمثقف والفيلسوف -بكونه مثقفاً بالضرورة بحسب موران- وهي كذلك المنهجية التي ينبغي أن تبنى عليها الفلسفة التربوية المعاصرة. وذلك بأن تقدم فكرا معقداً ينشد الربط والانفتاح على المعارف الإنسانية المختلفة والانفتاح والتضامن والحوار المستمر مع الآخر بكونه شرطا للتنوع والثراء المنتج "للتعقيد". فعلى المثقف أن يتقن هذه المهمة وذلك بأن يكون على درجة عالية من الفهم والاطلاع على حقول المعرفة الإنسانية المختلفة من علوم طبيعية وإنسانية وفنون وأديان وكل منتجات الفكر والثقافة الإنسانية ويجعل في صميم عقله وتفكيره الأزمات المختلفة التي تواجه الحضارة الإنسانية والتي هي نتيجة هذه الفوضى التي خلفتها الرؤية المعرفية المتمركزة حول ذاتها. يجب على المثقف إذا أن يوجه جهوده الفكرية في إيجاد حلول تربط الإنسان بالعالم وبالآخرين من خلال معرفة "معقدة" لا تغفل عن منجزات العلوم الطبيعية والبيولوجية والإنسانية والمعرفة الفلسفية الأتيقية ومنتجات الحضارة الإنسانية من فنون وأديان وثقافة، بحيث تكون الصورة الكلية دائماً حاضرة في تفكير المثقف. الفكرة المحورية عند موران هي أنه علينا أن نفكر في الإنسانية بكونها تنوع وصيرورة متناغمة تتشكل من كل العناصر التي تمثل الإنسان في أبعاده المختلفة لكن من دون الوقوع مجدداً في فخ الانغلاق والاختزال بتجاهل الأجزاء التي تكون الكل. بالتالي فمهمة التثقيف والتربية بحاجة إلى أن تكون في أقصى درجات الانفتاح على كل تلك الحقول المعرفية المختلفة مستفيدة منها في إيجاد مخرج وحلول للمعضلات والتحديات التي تواجه البشرية في هذا العصر. البعد الآخر الذي يراه موران شرطاً للفكر المعقد هو الشرط الأخلاقي المتمثل في الانفتاح والاتصال المتعاطف مع الآخر. التواصل والانفتاح والتعايش لا يراه موران مجرد شعارات تنويرية مثالية بل يعتبرها ضرورة ملحة من أجل أن تواجه البشرية أزماتها المعاصرة وتبني رؤية إنسانية "معقدة" تتجاوز الاختزال والانغلاق المعرفي والأخلاقي. يرى ادغار موران أنه لا يمكن للبشرية أن تتجاوز أزماتها في هذا الحقبة من التاريخ الإنساني التي عنوانها هو الاتصال والتواصل من دون التعامل بجدية من قيم التعايش واحترام الآخر واعتبارها ضرورة معرفية وأخلاقية ووجودية. إن التقدم التقني والعلمي الذي تشهده الحضارة الإنسانية اليوم لم ينجح تماما بحسب موران في توظيف تلك المنجزات لصالح الإنسانية وتحقيق تقدم من شأنه المساهمة في بناء رؤية تضع في اعتبارها الأبعاد المتنوعة للتجربة الإنسانية. هذه الرؤية يجب أن تكون محورا أساسيا تقوم عليها التربية بحيث تنتشل الأجيال الصاعدة من بردايم الرؤية الأحادية المنغلقة. الحل إذا عند ادغار موران يكمن في بناء رؤية "معقدة" تتجاوز بالإنسانية النظرة الأحادية الاختزالية إلى نظرة أكثر تنوع وثراء وغيرية. رؤية مرحبة بكل منجزات التجربة الإنسانية المتنوعة ومرحبة أيضاً بالآخر المختلف مدركة أن التعايش والتنوع الفكري هو السبيل نحو حياة أفضل ومستقبل بشري أكثر إشراقاً. جعفر الأنصاري

مشاركة :