بين واقعية الحدث ورمزية الدلالة

  • 12/30/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تضم هذه المجموعة ما يقرب من ثلاثين قصة ما بين قصيرة وقصيرة جداً، واللافت فيها أن عناوينها قصيرة معرّفة ( معرفة) تتكون من مفردة أو مفردتين، وهذا الإيجاز والتعريف ينسجم مع العنوان الرئيس الذي يشير إلى أن الحكايات التي تضمنتها مجهولة ؛ ولهذا يأتي التعريف (بوصفه مصطلحاً نحوياً) منسجماً مع طبيعة هذا اللون من السرد الذي يؤشر إلى خفايا تتوارى وراء السطح الظاهر المنظور ، وتنبش في نخاع الواقع . ولعل القصة التي حملت عنوان المجوعة تسلّط الضوء على عمق الرؤية التي تغوص خلف الظاهر وتعرّيه وتكشف أبعاده المستترة وتدلف إلى أهم زوايا مثلث (التابو) الاجتماعي ممثلا في موضوع الجنس ،فثمة اختراق يجلو حقائقه ممثلا في شبكة العلاقات التي تفرزه من اضطهاد وشك ونظرة إثنية و عقد نفسية ناجمة عن ذلك كله، تؤدي إلى إنتاج شخصيات هجينة تستر عورة الخارجين على أعراف المجتمع و أخلاقياته ، وتقترب القصة في بنائها الفني من الفانتازيا دون أن تغادر حدود الواقع ؛ فالإنسان فيها ينحطّ إلى درجة الحيوان ، والحيوان يرتقي إلى ذروة الإنسانية ؛ تلك مفارقة صارخة تتشكل عبر بنية القصة، فأبطالها خليط من النوعين تتداخل أفعالهما و تتقاطع طباعهما : المرأة المضطّهدة المهملة المظلومة المتّهمة التي لا تجد من يعطف عليها غير الكلبة التي تقوم بدور (الداية) فتساعدها في الولادة ، وتقطع الحبل السّري للوليد و ترضعه، وتنتهي إلى هروب الأم التي تطاردها شكوك الزوج، وعدم قدرة الوليد على التواؤم مع المجتمع ولواذه بعالم الحيوانات الأليفة في البيت . قصة تلتقط لحظة التوتّرو تصوغها ، وتبلغ بها الذّروة وتناتهي بها إلى نهاية مفتوحة، تتيح للمتلقي أن يتأمل الموقف برُمّته وأن يجتهد في فهمه ، ويثبت تلك المقولة الذائعة عن القصة القصيرة بوصفها (فن الأزمة وفن الجماعات المقهورة) كثافة لغوية وتركيز في الحدث يبلغ به (الذروة) وينتهــي إلى ( لحظة التنوير ) وتشكيل جمالي لافت ، ينهض على المفارقة ويلامس سقف الغرابة ، بطولة مزدوجة ، ورصد دقيق لحركة الشخصية واختصار للزمن باستثمار تقنية (الفجوة) التي تعمل على تقليص زمن المتن الحكائي عبر المبنى الفني واستثمار لمختلف أشكال الزمن (الكوني « ليلة كئيبة مكسفة») والطبيعي والعددي وتوظيف للمكان ، وشريط لغوي محدود ، وقاموس لغوي خاص يستثمرمختلف الحيوانات الأليفة ، وإشارة إلى الآزمة متنوّعة الروافد حيث الشك والانقطاع عن الصلات الإنسانية (أم سعد) بقرار سلطوي ذكوري ، وعبوديّة قسريّة ومخاض عسر وهروب من الخوف ؛ أما المكان فمُعتَزل في مزرعة نائية ، وزواج من امرأة بغي في حاضنة منحرفة وحشد لكمٍّ من الأزمات تفضي إلى ما يتضمنه العنوان من دلالة (حكايات مجهولة) فكل ذلك يجري بمنأى عن النور . ولعل اللافت في هذه المجموعة أن قصصها التي تبدو حكايات بسيطة تصوّر مواقف واقعية تختزن طاقة رمزيّة تتجاوز المشهد (اللقطة) إلى آفاق واسعة تنداح على مساحات شاسعة، تسنوعب معضلات إنسانية ذات أبعاد اجتماعية كبرى ؛ ففي قصة (الفتوة) ينتقل الكاتب من هاجس داخلي يساور الراوي (البطل) ورغبته في التمتّع بالجلوس على المقهى التي يلتقط نبض مرتاديها بالصوت و الصورة ويتسع بمكانها الهامشي الضيق عبر المذياع ليجعلها في مرآته المحدّبة لوحة يختزل فيها العالم كلّه عبر نشرة الأخبار ؛ فيغدو المرتادون لها ممثلين لطائفة من البشر يعيشون على الهامش مذعنين للقوة فاقدين للقدرة على حماية القيم متخاذلين أمام العملاق الذي اغتصب مقعد الراوي فأذعن بدوره لمنطق الفتوة (القوة) وتنازل عن حقّه ، فنحن أمام بنية تتشابك فيها ثلاثة مشاهد من خلال المقهى الذي يبدو مكافئا رمزيّا للعالم كله : العالم الداخلي ل(الراوي) حيث طلب الراحة والسلام وروّاد المقهى الهامشيون المذعنون والفتوة المغتصب« عندما التفتّ إليهم أشاحوا بوجوههم متأملين أحذيتهم» وهذه هي لحظة التنوير التي انتهت إليها القصة التي صورت لحظة التوتر وبلورت الأزمة . ينزع الكاتب إلى مقاربات في العمق تمسّ ما ترسّب في النفوس من عقد تشلّ الإرادة ، وفي قصته (كابوس جدي) يصوّر الكاتب عقدة الإذعان للإرث الذي يتحكّم في مصائر الخلق ، فمنذ العنوان يطلق الإشارة الأولى التي من شأنها أن تفتح باب التأويل ، فالكابوس بما يوحي به من رعب منسوبا إلى الجد بما يمثله من ثقافة وسلوك ، وإذعان الراعي لما أملاه عليه جدّه في الحلم من مغادرة للقرية ورحيل إلى المدينة التي قادته إلى أزمة الفشل والتيه ، وقد عمد إلى استثمار الحوار الذي احتل الجزء الأوفي من النص لأنه الأنسب لمناقشة هذه المسألة الحضارية ، وجاءت حبكتها بسيطة تنامى فيها الحدث عبر تكرار الحلم حتى بلغ حد التسليم بما جاء في الكابوس الذي يأمره فيه جده بالذهاب إلى المدينة ، وقد عمد الكاتب إلى إطلاق إشارات توحي بما تفضي إليه رؤيته حين أشار إلى ما عرف به الجد في حياته من كذب في إطار السخرية العابرة . وفي هذا الإطار تأتي قصته ( النفايات) التي تصور مشهد المتحلّقين حول صندوق (الزبالة) ينقبون فيها عن المخلفات (الأثاث المستعمل) لبيعها والارتزاق من ورائها مصوّرا الأجيال الثلاثة : الجد والأب والابن بما ينطوي عليه ذلك من علامات تتجاوز المشهد الواقعي البسيط لتبحر بعيدا في الأعماق ، وفي هذا الإطار تندرج كثير من قصص المجموعة التي تستوقف قارئها متأمّلاً أبعادها ، فبعضها يتجاوز حدود الصورة الملتقطة بإيحاءاته وعلاماته ، ومنها ما تتوقف دلالته عند حدودها الواقعية الصّرفة بدلالاتهـــا الإنســــانيّـــة ، مثل قصة ( الصدمة) وفي قصة (عمود الإنارة ) وهي عبارة عن حواريّة متعددة الأطراف ، تنمّ عمّا وصل إليه بعض فئات المجتمع من سلبيّة وأنانيّة متوسّلاً بتقنية المشاهد المتسلسلة الملتقظة من الشارع والمستشفى ومراكز التحقيق حيث، يصبح الضحيّة متّهماً ويمسي الإهمال واللامبالاة ديدناً . وأما الرسم التشكيلي الذي يختزل الرؤية في صورة نموذجٍ بشريّ يضفي عليه الرسام مشاعره ورؤاه فله من هذه المجموعة نصيب في قصته ( سلمى ) بورتريه لفتاة خلع عليها كل مظاهر الجمال وجعلها قبلته التي وجّه إليها مشاعره وفكره ، وحين كاد أن يظفر بها وجدها تباع في سوق الطمع فكانت الصدمة هي لحظة التنوير. في ومضاته القصصية التي لا يتجاوز بعضها السّطر إلا قليلاً تبدو مشحونة بالدّلالة التي تجعل القصة أقرب إلى أن تكون من شوارد الكلم كما في (العمل ) تتلخّص القصة في جملتين « كان كثير الكلام عن الواجبات ـ وحينما عين مسؤولا ظل صامتا « التناقض بين القول والفعل في مفارقة طريفة بين الكلام و الصمت .، وفي هذا الإطار جاءت قصة ( الوصاية) في مشهد يقوم على المفارقة التي تكشف التلوّن والنفاق في إطار أوسع حيث تتسع الصورة لمزيد من التفاصيل والرتوش . وقصة (الغرور) تنطوي على مشهد آخر مبني على التسلسل ، يعكس المفارقة بين البداية والنهاية ، الديك المزهو الذي يتباهى حتى إذا بلغ الذروة مات (وعند التناهي يقصر المتطاول ) كما يقول أبو العلاء . وهذه القصص التي تبدو أقرب إلى الأخبار إلأ أنها تختلف عنها في إجابتها الواضحة على أسئلة القصّة الفنّية ممثلة في نمو الحدث وتعبيره عن لحظة التوتر ثم لحظة التنوير ، ففي قصته القصيرة جدا (حب عبر الأثير) تبدأ الشخصية الرئيسة بالعمل ثم تحقّق الهدف المدهش، ثم تنتهي إلى فقدان الإحساس بالأشياء : حين بدأ باستخدام جهاز الحاسوب الذي بلغ به موقع صاحبته فأصابه وجود اسمها في القائمة بالذهول فلم يشعر بطعم الشراب وغاب عنه الوعي . وفي قصة صديق « التصق به صاحبه فلما قدم خدمة رحل» أقصر قصة في المجموعة ولكنها تتسم بالمفارقة وهي جوهر الفن . مجموعة قصصية تنطوي على جماليات السرد القصير،وإن بدت في ثوب حكايات معتادة ، ولكنها مشحونة بالعلامات والإشارت غنية بالدلالة.

مشاركة :