ميرنا الشويري روائية صدرت لها عن دار "نلسن" في بيروت رواية "مطر خلف القضبان". وتحاول الروائية ان تحفر في الطبقة السفلى- المسكوت عنها في "سجن النساء"، هذا العالم السفلي ينسجم مع صناعة روائية تفترض وجود شخصيات وفضاء وحبكة، الروائية لا تكتفي بطرح نفسها في موضع أسئلة تنهشها بإلحاح في حوار داخلي، يعمد إلى اختلاق شخصية متشظية الذات - الكاتبة /البطلة ماري أنجيلا الصمّاء.. "بعد أن عرضت أهمّ المشكلات التي تعاني منها السجينات في السجون اللبنانية ذكرت أنّني أحضّر رواية عن السجينات، وتمنّيت على المنظّمة أن تساعدني على نشرها في عدّة دول في العالم". جاءت الرواية في جزئين، نساء مهشّمة، فاقدات الامل ليدلل على تشتت الشخصيّات ومعاناتها وتفتّت دواخلها. اما الجزء الاخر سيرة ذاتية لعلاقة عاطفية للبطلة. وجاء تحت كل جزء عناوين فرعيّة تعطي القارئ تلميحا وأحيانًا تصريحًا بما يلي من سرد وأحداث. ظل السارد العليم مسيطرًا على العناوين الفرعية في الرواية الخارجية إن جاز التعبير، بينما كان ضمير المتكلّم من تولّى عملية السرد في الرواية الداخليّة وعلى لسان بطلتها أو الشخصية الرئيسة. "أرجوك أن تساعدني، أن أنسى من أساء إليّ من دون ذكرهم حتى لا أغضب. وأنا من تخلّى عنيّ الجميع، وتخلّيت عن نفسي، أصبحت ملكاً لك، لأنّك لن تتخلّى عني. نعم كلّي لك، ولكنّني ضعيفة، فأرجوك أرسل لي شعاعاً أمسكه بيدي عندما ترتجف روحي أمام العواصف.." اللغة في كتابة الرواية إيحائية تطرح نفسها كحامل للحدث، لغة يمكنها أن تقود النص إلى حيث تريد دون أن يشعر بها أحد، كأنما هي حديث عفوي دون إعداد مسبق. على هذا المنوال يمكننا ان نكتشف اسلوب السرد، مرة كلحظة تجلّ وجداني مُغرق في الذات مطلّ على الآخر ومرّة في خبايا الأمكنة داخل "السجن"، وتارة في الخارج". "لا أعرف أن أنسى احتفال أرواحنا وأجسادنا تحت المطر، وكيف كُتب الحبّ تحت المطر، وكيف احترق الشغف باتّحاد السماء والأرض في اتّحاد روحين وجسدين، وكيف لكلّ هذا أن يحدث ثمّ يُمحى كالرسوم على رمل البحر؟". ولا تقتصر الحكاية – بطبيعة الحال – على ما سبق ذكره، فثمة حكايات أخرى متداخلة حكاية - الوهم وتجارة البشر والدعارة وأولاد السجينات وتظل هذه الحكايات بمنزلة الفروع التي تنبت على جذع الحكاية الرئيسة في السرد في هذه الرواية من النوع الذي يستوعب فيه الحكاية الرئيسة حكاياتٍ أصغرَ منها، الإطار الذي يضم مجموعة من الصور، لا صورة واحدة. وتم سردها بأسلوب المونتاج السينمائي من خلال كسر خطاطة السرد والزمن معا.. "شخصية ميشا تشي بأنّ العالم الخارجي سجن آخر، ولكن سجنائه يلبسون أقنعة وتروي كيف عاشت أجمل أيامها في السجن إلّا أّنها لاحقاً تُصلب هي وطفلها من قبل المجتمع.." الكاتبة هنا تسوق لنا صور من المنبوذات والمهمّشات من النساء، وهذا شيء قل أن يلتفت إليه الروائيون المشغولون على الدوام بالهواجس الكبرى في السياسة، ومسائل الدين، ومظاهر الميز بين الأنوثة والذكورة، والصراع الطبقي، ومع ذلك فإنَّ جدة هذا الموضوع، وأهميتهُ، ليست هي التي تجعل من "مطر خلف القضبان" رواية جيّدة، فنحن أمام حكاية تهم الراي العام، وحكايات أخرى أدنى أهمية، صيغت في خطاب فني يعتمد تقنيات سردية تضفي على الحكايات الجاذبية، والتشويق، وتجعل من يوميات "السجن" وقائع بنية ذات شكل قابل للتأمل، والدراسة، والوصف الفني. فالرواية تتوسَّلُ نمط سرديّ يقوم على منظور يحتلّ فيه المؤلف/السارد المشارك موْضع البؤرة، فهي الراوي/ البطل وأحد الشخوص، بالإضافة هيمنة السرد بضمير المتكلم، وثانيها تعدُّد الأصوات، طريقتان اتبعتهما المؤلفة بإتقان، علاوةً على اعتمادِها على السرد المتشظي الذي لا يخفي تلاعب الكاتبة بالزمن، وفقا لبنيةٍ تقدِّمُ ما منْ حقّه التأخير.. ومن الملاحظات التي لا تفوتُ القارئ، في هذه الرواية، تلك الحرفيّة الجليّة التي تتَمثَّلُ فيما سعتْ إليه المؤلفة منْ جمَع للمعلومات، واستقصاءِ للبيانات التي تعْصمها من الوقوع في الخطأ. وهي تروي حوادث وقعتْ في فضاء سرديّ غير مألوف بالنسبة لاهتمامات الروائيّين "عالم السجن". ويتضح ذلك في أكثر منْ موْقف. ولا شك في أنّ لغة الكتابة ولغة الكلام في هذه الرواية مستويان يأتلفان في النصّ ائتلاف مستوياتِ شخوصها. "هنالك الكثير من المهمّشات، ولكنّني اخترت أن تكون السجينات محور دراستي، لأنّ صوتهنّ يكاد يختنق خلف جدران السجن. هنّ فئة أرسلن إلى السجن بهدف التأهيل أكثر من العقاب، ولكنّني أؤكّد لكم بأنهنّ يضطهدون داخل السجن وخارجه..". وباختصارٍ شديد تجمَعُ هذه الرواية مستوياتٍ من الأداء اللغويّ تَتَناسبُ مع اعتمادِها تعدُّد الأصوات، والحوار وتنضيدِ الحكايات في إطارٍ جامِع يصحّ أن يوصف بالسرْدِ المُؤطَّر. "أغمضت عينيّ، فرأيت عينيه الزرقاوين، ابتسمت، وعزفت لهما لحنه المفضّل، الفصول الأربعة لأنطونيو فيفالدي. ومع أنّ أذنيّ لا تسمعان عزف أصابعي، ولكن روحي تسمعها، وتحلّق بعيدًا إليه. لا ليس بعيدًا فهو قريب منّي كقرب الروح لجسدها". إن الخطاب الروائي في رواية "مطر خلف القضبان" نموذج آخر من خطابات الإقصاء والفقد، لأنه يضيء عتمة سجن النساء ومعاناة النساء في السجن، ولأنه خطاب حدد مفهوما للسجن وحلل نفسية السجينات، وأن الرواية جعلت من "المكان" شخصية رئيسية كما هو الحال في الرواية المعاصرة، ولا يمنعنا من الحديث عن تراجع الشخصية عن موقفها حيال معنى السجن-الملاذ، لأن السجن يبقى حبسا سببا في تشويه النفوس المشوهة والأرواح العدائية بل إنه يزيد من شراستها وحقدها لأنه يمزج بين العقوبة واحتقار السجين لذاته. " لم أعد أعرف، ربما أنا روح مبعثرة، أو أحلام منثورة على مهجة العدم، أو حواس من دون حواس… كيف لك أن ترحل، وتترك طيفك يشهد موتي مئات المرات؟ أرجوك خذه معك، أريد أن أموت في صمتي الأصمّ، فهو لا يسمع صرخاتي. أحببتك لأحيا، فقتلتني لتحيا، ولم تشعر بذنب جريمتك، تبرّأت منّي ويداك ملطّختان بدمي. والغريب أنّني أحبّك أكثر حتّى من دون حواسي. أعرف أنّ كلماتي لن تصلك، وأنّ حبي لك لم يعد يعنيك، ولكن العاشق لا يملك إلّا أن يأمل حتّى ولو لم يكن هنالك أمل.." لذلك فهي رواية مختلفة، وتنقل تجربة مغايرة، يكابدها نساء تعرضن الى الاهانة اذن هي رواية نموذجية في دراسة "سجن النساء" لأنها نقلت بشاعة الفضاء المظلم والكئيب والمهين للإنسانية الإنسان، خاصة انتهاك حرمة المرأة في المجتمع الشرقي من اغتصاب وعنف. وتكشف هذا الروائية ميرنا الشويري، فتروي قصة امرأة بريئة سجينة حُكمت ب 187 قضية الرواية تعتبر توثيقية في بعض جوانبها واتجهت لنقد العديد من الممارسات داخل سجن النساء وقد حفلت بالتشاؤم وتم استخدام أسلوب استعادة الذاكرة في الحديث، وهذا واضح من عنوانات فصول الرواية. أعتبر هذا النص الأدبي المتميز تجربة تحمل الكثير من الثراء ينفذ بعمق إلى ذواتنا، فبداخل كل منا يقبع ذلك الجزء من الرغبات المبتورة أو الأحلام المفقودة التى تداعب أخيلتنا وتتقاسم معنا واقعنا دومًا حتى تكتمل الصورة. على أيّ حال، فإنّ الكاتبة في روايتها هذه اقترحت طريقة جماليّة غير تقليديّة لكتابة نص سردي تمحور حول السجن وربّما يتّفق هذا مع أهمّ رسالة من رسائل الكتابة المخفيّة، وقد كتبت بلغة مفهومة وسلسة وذات توتّر عاطفي محمّلة بشحنات عاطفيّة، وقيم عليا وطنيّة وإنسانيّة.
مشاركة :