في تسعينات القرن الماضي كان الصحافيون الدوليون القادمون للبلاد التي أصبحت ثاني العواصم العربية ترزح تحت الحصار الدولي، يسألون بعد يوم من الإقامة في طرابلس هل نحن في العاصمة الليبية حقا، فتأتيهم الإجابة بنعم واضحة، إلا أنهم يعودون ويسألون لماذا إذن يتحدث كل المسؤولين عن سرت بوصفها العاصمة المقدسة؟ مثل هذا السؤال الساذج والملتبس معا لم يكن يحظى بإجابة واضحة من قبل الليبيين، فـ”القائد” اختار أن تكون سرت هي العاصمة الإدارية للجماهيرية، وأمرَ كل الوزارات بالانتقال إلى هناك بغض النظر عما يمكن أن تقدمه من أعمال. ويتداول الليبيون مزحة شهيرة تنسب إلى وزيرة الإعلام الليبية آنذاك فوزية الشلابي بكونها جسدا موزعا ما بين سرت وطرابلس! وبالفعل تم بناء مجمع إداري فخم وقاعة مؤتمرات مجهزة لاستقبال القمم الأفريقية والعربية، فضلا عن مجمعات سكنية للأهالي والضيوف القادمين إليها. لكن المدينة بقيت من دون فندق حتى نهاية تسعينات القرن الماضي يليق بها بوصفها عاصمة إدارية للبلاد المترامية الأطراف. الأمر الذي يكشف عشوائية الاستراتيجيات التي يضعها معمر القذافي. ◄ كل الاتفاقات التي يعلن عنها بين الفرقاء الليبيين، سواء ما يمكن أن يتحقق منها أو يبقى مجرد كلام أشبه بفقاعة في الهواء، تنطلق من سرت في القمة الأفريقية عام 2001 كنت من بين العشرات من الصحافيين القادمين من مختلف دول العالم لمتابعة إعلان الاتحاد الأفريقي، الذين تم إسكانهم في باخرة راسية في البحر، فلا يوجد في المدينة ما يكفي من الفنادق لاستقبال الضيوف. يمكن القبول بفكرة أن سرت يمكنها أن تصبح عاصمة إدارية مقبولة جغرافيا لليبيين لكونها مدينة ساحلية على ضفاف المتوسط تتوسط البلاد ما بين طرابلس وبنغازي، لكن هذا العامل الجغرافي لم يكن كافيا للاستراتيجية الجيوسياسية التي كان يفكر بها القذافي، فهو اختارها ليس لجغرافيتها الملائمة، بل لأنها مدينة أجداده الذين يعدهم مصدر التاريخ والجهاد ولا يقلون شأنا عن بطولات الليبيين من بنغازي حتى سبها إلى مصراتة وطرابلس. بالطبع لم تستفد سرت مما خصص لها من ميزانية هائلة، وبقيت المجمعات فيها مجرد بنايات فخمة فارغة لا تقدم أعمالا تفيد البلاد، ولم يتحمس الليبيون للانتقال إلى مدينة صحراوية شاحبة، حتى عمل الوزارات فيها بقي هامشيا عندما تفتت إلى مؤسسات تعمل في العاصمة طرابلس بشكل فعلي، فيما المركز يشير إلى سرت. لم يفقد القذافي الثقة بمدينة قبيلته في أسوأ أيامه، لذلك اختار أن يُقتل فيها، بيد أنها أكثر المدن التي تحملت التنكيل المتعمد بعد التدمير أثناء الاحتجاجات الدامية، وتعمد الثوار أن يوغلوا بإذلالها، ذلك ما يفسر لنا دلالة المدينة عند القذافي نفسه، وفشلها أن تكون عاصمة إدارية وسياسية حقيقية تتوسط ليبيا. اليوم تعود سرت إلى مستهل الأخبار في البلاد المقسومة بين طرابلس وبنغازي، فحكومة عبدالحميد الدبيبة أخذت شرعيتها البرلمانية من سرت، عندما انتقل أعضاء برلمان طبرق إليها للتصويت على الحكومة، وعندما أريد الاتفاق على فتح الطريق الساحلي ما بين بنغازي وطرابلس، اتخذت اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 من سرت مركزا لهذا الاتفاق، ذلك ما دفع المستشارة الأممية الخاصة بليبيا ستيفاني ويليامز إلى القول “وقفت في بوابة الخمسين عندما كنت في طريقي إلى سرت، والتقيت بالقوة المشتركة في هذه البوابة، وهذا إنجاز كبير بأن يفتح الطريق الساحلي بين الغرب والشرق في ليبيا”. وعندما يلتقي فرقاء الشرق والغرب، لا يجدون غير سرت مكانا وسيطا مقبولا بالنسبة إلى الطرفين اللذين أسهما معا بالتنكيل بأهالي سرت وعزلهم باعتبارهم قذافيين بلا تردد! تلك اللقاءات فتحت الطريق باتجاه الشرق نحو بنغازي حيث كان هناك فتحي باشاغا في لقاء نادر مع المشير خليفة حفتر يكسر جدار الخلاف. آخر الأخبار السارة تأتي من سرت أيضا عندما أعلن التحرك بأول خطوة لتوحيد الجيش الليبي. وهو الاجتماع الثاني خلال أقل من شهر. قيمة الخبر لا تكتفي بأهمية توحيد الجيش الليبي لاستعادة الدولة المخطوفة من الميليشيات، بل ثمة أهمية سياسية تكمن في أن الاتفاق الأول تم في مدينة سرت. فقد أكد عبدالرازق الناظوري القائد العام المكلف بالجيش الوطني الليبي برئاسة المرشح للرئاسة الليبية المشير خليفة حفتر، عقب لقائه محمد الحداد رئيس أركان الجيش في حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة في طرابلس، أنهما اتفقا على توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا قريبا “علينا أن نكون حذرين في التفاؤل فليس كل ما يبدأ في ليبيا يمكن أن يستمر”! ◄ يمكن القبول بفكرة أن سرت يمكنها أن تصبح عاصمة إدارية مقبولة جغرافيا لليبيين لكونها مدينة ساحلية على ضفاف المتوسط تتوسط البلاد ما بين طرابلس وبنغازي وعندما فشل الليبيون في الاتفاق على موعد إجراء الانتخابات تصاعدت الأسئلة بشأن شرعية استمرار حكومة الدبيبة، الأمر الذي زاد من رصيد مقترح معبر عن الفنتازيا السياسية القائمة، بتشكيل حكومة وحدة وطنية تتخذ من سرت مركزا لها. مهما يكن من أمر، فإن كل الاتفاقات التي يعلن عنها بين الفرقاء الليبيين، سواء ما يمكن أن يتحقق منها أو يبقى مجرد كلام أشبه بفقاعة في الهواء، تنطلق من سرت. بيد أن لا أحد من كل الذين يبشرون بهذه الاتفاقات يفكر بمعاناة وعزلة المدينة وأهلها والظلم الذي وقع عليهم بذريعة أنهم “قذافيون”. ولم يتم التحقيق لحد اليوم بالظلم الذي لحق ببنيتها التحتية وتشريد سكانها. لم تتخلص سرت مثلها مثل المدن الليبية الأخرى من وباء التقسيم القبلي في زمن القذافي، ولا يزال ينظر إليها بطريقة شنيعة وفقا للثقافة الاجتماعية السائدة. لكنها بمجرد أن تعود إلى واجهة الأخبار السارة، فإنها تعيد التذكير بها، بينما يحلم الليبيون القادمون من بنغازي إلى طرابلس والذاهبون إلى بنغازي من طرابلس، بأن تكون سرت محطة لقاء ودي تؤرخ للعابرين على أطول طرق البحر المتوسط الساحلية. علينا ألا ننسى هنا مصراتة عندما تكون وسيطا رابطا لإعادة وشائج المدن الليبية.
مشاركة :