الصحافة الأميركية لا تترك نسمة تمر من أمام نجوم هوليوود دون أن تجد تأويلا وتداعيات مملة لمرورها، فكيف مرت عليها عشرات الانتهاكات والفضائح الجنسية للمنتج هارفي واينستين كل تلك السنين.العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/10/21، العدد: 10788، ص(18)] ثمانية آلاف كلمة في تقرير صحافي مازالت تداعياته تمس الأوساط الفنية والسياسية والأمنية والاجتماعية في الولايات المتحدة ودول أخرى، ليست سببا كافيا للاقتناع بأن الصحافة لم تكن جبانة، بعد صمتها كل تلك السنين على انتهاكات المنتج الأميركي هارفي واينستين بالتحرش بعدد كبير من النساء. لقد كان الصحافي والمحامي رونان فارو (1987) وهو ابن الممثلة السابقة ميا فارو والمخرج ودي ألن، قد تقلد وسام الشجاعة الصحافية بنشر تقرير من 8000 كلمة في صحيفة نيويوركر الأسبوع الماضي عرض فيه قصصا مفصلة لثلاث عشرة امرأة، وكيف عشن ساعات الألم والإحباط والانهيار والخضوع إثر عمليات تحرش واغتصاب قام بها المنتج الأميركي هارفي واينستين. الضجيج المتصاعد منذ أكثر من أسبوع والذي دفع الشرطة للعودة إلى ملفات قديمة، ومنح وسائل الإعلام مساحة مريحة وشيقة لتداول قصص “هارفي المفترس″، كان يقف وراءه رونان الصحافي والمحامي الشاب الذي سبق وأن عمل مستشارا في إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وبطبيعة الحال يستحق رونان عبارات الثناء وسيوصف بالصحافي الشجاع والجريء من دون تردد. ملاحظة قد تبدو مثيرة للقارئ العربي عن رونان فارو فهو ناشط مدافع عن حقوق المثليين، وهو ابن الممثلة ميا فارو والمخرج ودي ألن في الاسم، لكن والده البيولوجي يتوقع أن يكون المغني فرانك سيناترا. نعم، سقط واينستين من وضعه كأحد عمالقة هوليوود ليصبح دخيلا موصوما بالعار منذ أن تم نشر التقرير الصحافي. الأمر الذي دفع مكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القول إن بلاده بدأت مناقشات لسحب وسام جوقة الشرف، أحد أرفع الأوسمة الفرنسية، من المنتج السينمائي واينستين بعد مزاعم عن تحرشه الجنسي، معتبرا هذا “السلوك متناقضا مع الشرف”. كما ظهر علينا فنانون وكتاب وسياسيون يطلقون صيحات الإدانة العالية بحق المنتج مفترس النساء، الذي كان صديقهم حتى ليلة أمس! واستعاد أقرب الناس الذين كانوا يقضون معه الأماسي الباذخة ويعرفون الضحايا عن قرب، الشجاعة المتأخرة بعد عقود لإدانة صديقهم ووصمه بالعار. الصحافة الأميركية والبريطانية مازالتا تعتبران الموضوع القصة الأكثر طلبا لحد الآن ولا يتوقع أن تنتهيا منها خلال أسابيع، وتشعران بالفخر لكونهما من فتح الملف الآسن الذي لطخ سمعة أوساط هوليوود بالعار. على مهلكم -أيها الصحافيون الشجعان- لقد مرت سنوات على تلك الانتهاكات التي كانت تمر أمامكم، ومارستم الصمت عليها. الصحافة الأميركية لا تترك نسمة تمر من أمام نجوم هوليوود دون أن تجد تأويلا وتداعيات مملة لمرورها، فكيف مرت عليها عشرات الانتهاكات والفضائح كل تلك السنين. يتساءل بيتر بريستون رئيس تحرير صحيفة الغارديان البريطانية السابق، في وقت تستحق الصحافة الأميركية الثناء على كسر كل ذلك الصمت لسنوات وكشف قصة سقوط واينستين من قبل صحيفتي نيويورك تايمز ونيويوركر “ألم يكن هارفي واينستين محميا لعقود من قبل الصحافة الجبانة”. ويعيد الصحافي ريان هوليداي إطلاق السؤال ملمحا إلى ما يشبه الاتهام، بأن وسائل الإعلام الأميركية مشغولة أكثر مما ينبغي بالقيل والقال، وصحافيوها يتبعون خطى نجوم هوليوود كجزء من عملهم اليوم، فكيف لنا أن نتصور أن مثل هذه الانتهاكات المريعة فاتت عليهم! لأنهم ببساطة “جبناء جدا”!! كما يرى هوليداي. بلى، الصحافة جبانة عندما يتعلق الأمر بمصلحة ما. وكل هذا الشغب الإعلامي والشهادات التي تكشف فظائع التحرش بالنساء تدار اليوم وفي وقت متأخر جدا ومتاح للجميع وليس كما كان يتطلب الأمر في حينها مواجهة قوة السلطة والمال والكشف عنها وتحمل نتائج تبعات ذلك بمسؤولية. لا أدعي هنا أن كشف الانتهاكات من قبل الصحافة الأميركية، أمر لا يستحق الثناء بوصفه عملا متميزا، لكن أن تمر كل تلك التحرشات من أمام عيون عدسات الصحافة كل تلك السنين أمر يصيب بالخيبة أيضا. لقد سبق وأن اتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الصحافيين بالمبالغة في الاعتداد بأنفسهم ولا يولون اهتماما كافيا بالبلد، من دون أن يصل إلى اتهامهم بالجبن، وقال ماكرون للصحافي الذي سأله لماذا هو مقل في حديثه للإعلام، إن “الصحافيين ليسوا محور اهتمامي، أنا أولي اهتمامي للفرنسيين، هذا ما يجب فهمه”. إن البيانات التي تتحدث عن ازدياد ثقة الأميركيين في وسائل الإعلام، يفندها اهتزاز ثقة وسائل الإعلام بنفسها، فهي تصارع من أجل البقاء وسط فكرة التكرار الذي يهدد المحتوى. ألا تكون وسائل الإعلام الوسيلة الأولى التي يرى فيها المجتمع حقيقة ما يحدث له، هذا يعني أن فكرة القبضة غير السليمة على دعامات السلطة من قبل السياسيين الفاسدين وأعيان المجتمع منتهكي القيم، في ازدياد مطّرد. لم يكن شعار السماح للناس بأن يقرروا ما يريدونه، بالنسبة إلى إمبراطور الإعلام روبيرت ميردوخ، خطوة رئيسية تدعو إلى الاعتقاد بأنه يجب عليك أن تثق في غرائزهم بدلا من أن تثق بغرائز النخب خاصة إن كنت تملك القوة لتشكيل تلك الآراء. وهذه واحدة من مشاكل الصحافة الكبرى التي تبعدها عن مشاكل الناس. لقد ظهر علينا الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في بيان مشترك مع زوجته ميشال أوباما بعد التحقيق الصحافي الذي كتبه رونان فارو أحد الذين عملوا معه في البيت الأبيض بالقول “أي رجل يقلل من شأن المرأة ومن قدرها بمثل هذه الطريقة يجب أن يُدان ويخضع للمساءلة بغض النظر عن ثروته أو وضعه”. كم يبدو هذا الكلام طيبا ولو أنه جاء متأخرا أكثر مما ينبغي ولن يستطيع إنقاذ النساء اللواتي تحرش بهن هارفي المفترس. كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة
مشاركة :