لوحة فريدة للمجتمع المغربي أوائل القرن العشرين في 'صندوق العجائب'

  • 2/22/2022
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

ترسم رواية "صندوق العجائب" للروائي المغربي أحمد الصفريوي لوحة تشكيلية ثرية وفريدة لتفاصيل وملامح جماليات حياة المجتمع المغربي التقليدي في أوائل القرن العشرين في مدينة فاس زمن الاستعمار الفرنسي، خاصة حياة النساء في عالمهن الحريمي المغلق سواء في الدور أو الحمامات ودور الدين التقليدي والشعبي بكل ما يحمل الأخير من خرافات في تشكيل رؤاهن ووعيهن حتى في العلاقات بينهن، وعادات وتقاليد وطقوس الحياة اليومية اللاتي يمارسنها داخل الحارة بدءا من الأعمال المنزلية وانتهاءب الثرثرة والشائعات. وذلك دون أن تغفل عن البعدين الحضاري والتاريخي للمدينة العريقة وانعكاساتهما على مفردات الحياة. الرواية التي إحدى الروايات المؤسسة للرواية المغربية، ترجمها وقدم لها الناقد والمترجم رشيد مرون وصدرت ضمن سلسلة كتاب الدوحة، موضحا أن المكان مدينة فاس المغربية التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى سنة 789م الموافق 172 هـ. والزمان فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب من 1912 إلى 1956. ب وموجب ظروف الاحتلال التي تطلبت تعزيز الإدارة بموظفين محليين، تم إنشاء مدارس فرنسية بموازاة مع التعليم الديني التقليدي الذي كان سائدا في البلاد. من رحم هذه الازداوجية التي فرضت على مجموعة من أبناء المغرب الأقصى تلقي تكوين يقتصر على اللغة الأجنبية فقط، ولدت الرواية المغربية المكتوبة بالفرنسية. وصدرت باكورة هذا الانتاج في سنة 1954: روايتا "الماضي البسيط" لإدريس الشرايبي "1926 ـ 2007"، و"صندوق العجائب" لأحمد الصفريوي "1915 ـ 2004". كاتبان من فاس، من الجيل نفسه تقريبا، هاجر الأول منهما إلى فرنسا إلى أن مات بها، وظل الثاني بالمغرب. كتب كل منهما، وفق منظوره، عن مدينته العريقة ومجتمعها التقليدي. ويضيف مرون إنه من المفارقة أن القدر الأكبر من النقد والاهتمام والشهرة والترجمة أيضا كان من نصيب إدريس الشرايبي بسبب شحنة التمرد السياسي والاجتماعي الذي حفلت به روايته "الماضي البسيط" في نقدها للعلاقات السلطوية الذكورية وللعقليات المحافظة داخل المجتمع التقليدي، في حين ذهب مجموعة من النَّقاد إلى اتهام رواية الصفريوي "صندوق العجائب" بالإفراط في تقديم الجوانب الإثنوغرافية النمطية عن البيئة المحلية لأعين القارئ الغربي المتشوق لصورة عالم شرقي منكفئ على نفسه، وفق الرؤية الاستشراقية المعروفة. ويؤكد أن مثل هذه الأحكام بعيدة عن الصواب مجانبة للحقيقة، بل وظالمة لرواية "صندوق العجائب"، هذا النص المؤسس للرواية المغربية الذي كتب في سنة 1952، وصدر عن دار النشر الباريسية العريقة "لوسوي" سنة 1954، سنتين قبل استقلال المغرب سنة 1956. لذا يجدر بنا أن نتساءل عن سر القيمة الفنية المتفردة التي مكنت هذه الرواية من عبور مسافة زمنية، تزيد اليوم على خمس وستين سنة، محتفظة بقدر عال من النضارة الشعرية والبصرية والنفسية، لتمنح المهتمين شحنة متجددة من متعة اكتشاف جوانب من حياة المجتمع التقليدي داخل أسوار مدينة مثل فارس العريقة بتاريخها وتقاليدها وعمقها الحضاري المبهر للقارئ العربي والغربيكليهما. وفي تقديرنا فإن سر النضارة الفنية للرواية يتوزع على عدد كبير من المكونات التي شكلت الخلطة السحرية الكامنة وراء هذا النص الأدبي المؤسس. ويلفت مرون إلى مجموعة محددة من هذه المكونات، يقول "تنتهي رواية أحمد الصفريوي بلفظة ذات دلالة: تكليف الأم لولدها البالغ من العمر ست سنوات بتوصيل كؤوس الشاي من مطبخها إلى "مجلس الرجال" حيث يستقبل الأب ضيفا. يقوم الطفل بالمهمة بخيلاء، ربما لوعيه أنها تدشن أخيرا لمرحلة خروجه من بين تلابيب النساء وقبوله في رحاب المجتمع التقليدي الذكوري بطبعه. إلا أن ذلك يكشف أيضا أن هذا النص المنتمي إلى نطاق ما أصبح يعرف لاحقا بالتخييل الذاتي، إنما هو نص يحكي عن حياة النساء في المجتمع المغربي التقليدي في ذلك الزمن المبكر خلال النصف الأول من القرن العشرين. إضافة إلى البطل الصغير الذي يتوفر، حسب تعبيره، على "ذاكرة من شمع رهيف تنطبع عليها الأحداث في صور لا تنمحي بعد ذلك أبدا"، فإن الرواية تتمحور حول حياة وجوه نسائية مؤثرة ذات حضور إنساني ونفسي بديع. وهذه الشخصيات هي الأم لالة زبيدة، وصديقتها لالة عائشة، وجاراتها فاطمة، ورحمة، وكنزة وغيرهن. نساء نتعرف على حياتهن اليومية ومشاكلهن وأحلامهن وعقلياتهن الساذجة البسيطة المنسجمة مع مجتمع يحكمه الموروث الشفوي، وعادات الأسلاف، التي كانت سائدة لحظتها. إذ إن الكاتبة ولد سنة 1915 ويمكننا أن نتخيل أن الأحداث تدور في زمن طفولته في العشرينيات من القرن الماضي. إضافة لذلك ترسم "ذاكرة الشمع" صورا وملامح نفسية للنسوة المذكورات تجعل منهن فعلا، ورغم أن الأمر يتعلق بأول رواية مغربية من الناحية الزمنية، شخصيات روائية إشكالية تعيش وتتطور بفعل تناقضاتها الخاصة، وتعاني من تعثر أحلامها على صخرة الواقع، دون السقوط في تبسيط كاريكاتيري لتهميش المرأة وتسلط الرجل في إطار مجتمع ذكوري تقليدي. ويتابع أنه على العكس من ذلك يرسم السارد صورة حضور نسائي يتحول إلى قوة جارفة بفعل غياب الرجل، وسعي المرأة إلى النجاح في الكسب والحب واستقرار عش الزوجية كأبرز هاجس يراود نساء المجتمع التقليدي، متوسلات إلى ذلك بما تعارف عليه أناس ذلك الزمن من معتقدات خرافية تتضمن اللجوء لخدمات العرافين والعرافات، وزيارة الأضرحة والمقامات، وتقديم النذور والتشفع بمقامات الأولياء والصلحاء. ويبدو أن جزءا أكبر من متعة القراءة ينتج عن قدرة السارد على نقل القارئ إلى داخل العالم الحريمي التقليدي المغلق في وجهه، ليكتشف كيف عاش المجتمع النسائي في هذه الفترة موضوع الحب وجعله خيطا ناظما لأحلامه، كيف عاني واشتكى من غدر الرجال، ولكن أيضا كيف أحبت المرأة التقليدية رجلها ودافعت عنه في لحظات ضعفه وهوانه النفسي والمادي والاجتماعي، إلى درجة أن لعبت، أحيانا، دورا أهم من دوره في رعاية عش الأسرة وحمايتها من نوائب الدهر وغدر الزمان. ويشير مرون إلى أنه إذا كان "صندوق العجائب" يجترح علاقة جديدة مع نساء المجتمع العربي التقليدي، فإن من شأن ذلك أن ينعكس على التصور الذي يقدمه عن الرجل الأب أيضا، والمفارقة هنا هي إسدال علامات القوة على الشخصيات النسوية من قبل البطل الرئيسي الطفل الصغير سيدي محمد ذي الست سنوات، مقابل تصوير حالات الضعف الذكوري المتعددة. وهكذا يعاني الولد من تسلط الأم زبيدة وإدمانها على النميمة والشجار مع الجارات، مقابل لوذ الأب بالصمت والغياب. وبغض النظر عن النطاق الأسري الداخلي نجد الثنائية تنطبق على حضور شخصيتين أخريين هما العرافة كنزة والعراف الشيخ الضرير "سيدي العرافي". نجد الطفل محمد ووالدته زبيدة يرتاحان لتوقعات الشيخ الضرير، لأنهما يلمسان نوعا من الاعتراف بالضعف الإنساني من قبله، بينما يرتابان من شخصية كنزة التي "تشبه لبؤة"، وتقيم علاقات شيطانية مع عفاريت الجن إلى درجة أنها تحرك كوابيس في خيال الصبي الصغير. لعل الضعف نفسه يعتري أيضا شخصية مولاي العربي الذي يصبح مثار سخرية النساء، لأنه "لا يملك إمكانيات إرضاء نزوات زوجته الثانية الشابة" بنت الحلاق عبد الرحمن، التي تزوجها بحثا عن إنجاب ذرية وليدفئ عظامه المسنة في خريف عمره"، قبل أن يعود صاغرا إلى حضن زوجته الأولى البدينة المتقدمة في العمر، لالة عائشة التي تصبح نوعا من المعادل للأم المبالغة في احتضان هذا الطفل الكبير إلى درجة خنقه رمزيا، خاصة وأنها تتصف بالكرم المادي وبتحدرها من عائلة ذات حسب ونسب". ويرى مرون أن شخصية الأب الذكر المهيمن والصراع المفترض بين الطفل والأب تتوارى إلى الخلف، على عكس ما جرت العادة عليه في تقاليدالرواية الغربية. ولا تجد تجسيدا لها إلا في البعد الاجتماعي الذي يتخلل، في فترات نادرة، ثنايا النص، عبر ملامح شخصية الباشا الظالم والقضاة الفاسدين الذين يتسببون في إفلاس مولاي العربي، في تقلبات القدر الذي يجعل أب الطفل السارد يفقد، بمحض الصدفة، رأس ماله في السوق ويضطر للمغادرة، بعدما خسر مكانته الاجتماعية كمعلم نساج وصار مضطرا للعمل أجيرا لدى الأغيار. بل كم نجد مؤثرة بضعفها ووفائها شخصية إدريس الأقرع الشاب الفقير اليتيم الذي يظلوحده، دون باقي أهل الحرفة، وفياومخلصا لرئيسه في العمل المعلم عبد السلام النساج في محنته ولا يمكنه إلا أن يلوذ بزبيدة التي تمنحه على فقرها طعاما يقيم أوده، في إطار ممارستها لدور الأم المهيمنة. ويؤكد أن الحمولة الشاعرية لنص "صندوق العجائب" تتضح منذ البدية، بل هي اختيار واع أو غير واع من البطل ـ السارد الذي يعيش، منذ طفولته الباكرة نوعا من العزلة عن أقرانه في الكتاب ومعارفه في الحارة، وينتصب "ذاكرة شمع رهيف" في مواجهة العالم المحيط به. يفشل في نسج علاقات حقيقية مع معارفه فيلوذ بعالم الخيال الرحب الشاسع، بأحلامه وكوابيسه وبروايات الكبار. كما يفهم مبكرا أن "كلمات الأغاني ليس من الضرورة أن يكون لها معنى واضح"، بل ويعتزم كتابة أغان. وبفعل عملية استبعاد الآخر، يتم إبراز مكون أساسي من مكونات النص هو البحث في مسار تشكل الذات الحميمة، في مراحل تطورها ونموها انطلاقا من تفاعلها مع العوالم الواقعية والرمزية المحيطة بها. فمكونات "صندوق العجائب" اللعبة الفردية المفضلة عند الطفل السارد، التي تتلخص في أصداف منمقة وأزرار ملونة وبضعة مسامير مهملة تلعب دورا لا يقل شأنا عما يدرسه الصبي في الكتاب. كما أن الحكايات العجائبية لعبد اله البقال، ونبوءات العرافي توفر بدورها مادة لاكتشاف العالم المحيط، لا تقل شأنا عن ثرثرة النسوة داخل غرفهن وولعهن بتتبع أخبار العائلات وأسرار البيوت في مدينة تقليدية"لا يخفى فيها خبر أحد على أحد". ويلاحظ أن هذه المكونات التي يصوغها السارد في حكيه، تساهم كلها في نمو وعيه المتوثب الذي يسجل ملاحظاته حولها ليضفي عليها طابعا حواريا واضحا يبرز التمكن من مكونات فن الرواية، ويبني الشخصيات الرئيسية منها والثانوية والأحداث اليسيرة منها والمؤثرة، وفق وتيرة تصاعدية تفضي إلى عقد وأزمات متزامنة تتجلى في غياب والد الطفل محمد والزواج الثاني لمولاي العربي الذي هو بمثابة غياب ثان، ومرض الابن السارد الذي يبعده عن الكتاب وعن شخصية الفقيه التي تشكل معادلا للأب المربي، مما يشكل غيابا ثالثا. إلى أن يتم حل العقد جميعا بتواز مع زيارة سيدي العرافي وكلماته ونبوءاته الحكيمة، وجلسة الفضفضة التي يعقدها بحضور الطفل ووالدته وصديقتها الأقرب. بمعنى أن عقدة الرواية لا تجد لها حلا في الواقع، ولكن في كلام الشيخ الضرير الذي يفعل فعل السحر في النفوس والأبدان، يجعل اللغة والنصوالحمولة الشاعرية والرمزية هي أساس تصالح المرأة مع غياب الرجل، والطفل مع كوابيس الواقع، والمبدع مع انفلات خيط السرد من بين يديه. ويختم مرون أن المؤلف أحمد الصفريوي لم يجد غضاضة في اتباع إحساسه المتفرد ورؤيته الخاصة في قيادة خيط السرد بعيدا عن الطرق المألوفة النمطية والسائدة، يجتهد في ابتكار رؤية غنائية شاعرية للأشياء والأشخاص وللعلاقات الاجتماعية متحررة من القوالب الجاهزة، وهو ما يعطي النص نوعا مؤكدا من الأصالة الإبداعية عبر تقديم العلاقات داخل المجتمع العربي التقليدي من وجهة نظر مختلفة عما درجت عليه الثقافة الغربية الحديثة في هذه المرحلة التاريخية. 

مشاركة :